أخبار عالميه

فنزويلا: أصوات الفقراء في مهب الريح

فنزويلا: أصوات الفقراء في مهب الريح

اسحق أبو الوليد

بتاريخ 20/5/2018 الماضي جرت الانتخابات الرئاسية الفنزويلية التي تنافس فيها ثلاثة مرشحين رئيسيين، الرئيس الحالي نيكولاس مادورو ، الذي حصل على 68% من أصوات المقترعين، خاض الانتخابات كمرشح لتحالف القوى التقدمية واليسارية، وهنري فلكون  حصل على 21 %، تم ترشيحه من قبل بعض أحزاب اليمين المعتدل، أما هافيير بيرتوشي، فقد مثل التيار الديني وحصل على 11%، هذا التيار آخذ في النمو في مجتمعات أمريكا اللاتينية بدعم وتمويل من قبل الإدارة الأمريكية. ويمكن القول إنها المرة الأولى التي يشارك فيها راعي أحد الكنائس الأنجيلية في انتخابات رئاسية تحت شعار ” الانجيل يُغَير أو الانجيل هو الحل “

 نتائج الانتخابات لم تفاجئ الرأي العام المحلي والاقليمي ـ العالمي، لأن كافة استطلاعات الرأي كانت تشير إلى تفوق المرشح مادوروا على منافسيه، رغم وقع الأزمة الشاملة والحادة والعميقة التي تعصف بالبلاد، وخاصة في ظل اتخاذ قيادات يمينية رجعية وفاشية القرار الذي فضلته إدارة البيت الأبيض بمقاطعة الانتخابات بحجة عدم الثقة بالمجلس الانتخابي، وعدم توفر شروط تضمن نزاهتها، ولكن في الحقيقة هي حجة للتغطية على عجزها وعدم استعدادها لاستلام السلطة، وإعطاء المزيد من الوقت للتآكل الذاتي لحكم اليسار البوليفاري.

في ظل هذه الأجواء الصعبة التي ترافقت مع تهديدات أمريكية وتشديد إجراءات الحصار المالي والاقتصادي لم يخسر تحالف القوى التقدمية واليسارية المعركة الانتخابية في فنزويلا، رغم (عودة) اليمين الليبرالي إلى الحكم في العديد من دول القارة التي كانت من أهم حلفاء فنزويلا في عهد الرئيس الراحل شافيز، وخاصة في الأرجنتين والبرازيل، واستمرار هبوب رياح (الثورة) المضادة المدعومة والممولة من البيت الابيض في كل من الاكوادور ونيكاراغوا. إن فوز الحزب الاشتراكي وحلفائه في الانتخابات لا يعني نمو لليسار لأنه عملياً كان اللاعب الوحيد على مسرح الأحداث.

   لاستيعاب ما يجري في فنزويلا لابد من قراءة الواقع بشكل جيد وموضوعي من خلال تحديد طبيعة المرحلة ومكونات الأزمة وأسبابها. فرغم أنها أزمة عامة وتضرب كل دول القارة الأمريكية، أي من الولايات المتحدة في الشمال حتي باتاغونيا (الأرجنتين) في أقصى الجنوب، إلا أن التأثر بها متفاوت. فالدول التي تحكمها قوى اليمين التابعة للمركز الامبريالي في الشمال، تبدو أوضاعها الاقتصادية أكثر تماسكاً، والقدرة الشرائية لعملاتها المحلية ثابتة نسبياً ومجتمعاتها مستقرة نوعاً ما، أما الدول التي تحكمها قوى اليسار تعاني من ” التخلف التكنولوجي ” وتدني بل انعدام معدلات النمو ومعاناة الجماهير الشعبية واكتوائها بسوط الأزمة، أي عكس ما كانت تتمنى وترغب عندما حملت على أكتافها قوى اليسار وجاءت بها إلى السلطة!.

 إن المشكلة الأساسية لا تكمن في اختيار فنزويلا، ودول أخرى في القارة، منذ انتصار الثورة البوليفارية بقيادة القائد الراحل تشافيز، السير في الطريق المعادي والمضاد للإمبريالية وإعلان تمردها على قرارات وإعلانات الإدارات الأمريكية المتعاقبة وتمسكها بقوه بحقها في الاستقلال التام وسيادتها على ثرواتها الطبيعية وعدم السماح لوجود قواعد عسكرية أجنبية على أراضيها وخاصة للإمبريالية الأمريكية، وتحالفها الاستراتيجي مع كوبا ونيكاراغوا اللتان تعتبرهما الإدارة الأمريكية عدوها اللدود في القارة.

        هذه السياسة الوطنية والقومية للنظام التقدمي في فنزويلا تلقى دعم وتايد قطاعات واسعة من الجماهير الشعبية،  وكذلك من كافة القوى الثورية والتقدمية المتحالفة مع الحزب الاشتراكي الموحد (الحاكم) التي تدرك طبيعة وأسباب الأزمه ذاتياً وموضوعياً، وفي نفس الوقت تلقى رفضاً وعداءً سافراً من القوى اليمينية الرجعية والفاشية التابعة للإمبريالية وقاعدتها ( الشعبية) المتمثلة بشرائح البرجوازية الصغيرة والمتوسطة التي ترفض المشروع البوليفاري الثوري من أساسه وتصارع ضده وتعمل من أجل إفشاله، والأخطر أن هنالك بعض القطاعات الشعبية، عمالية وفلاحية، إما مضّلًلَه أو غير قادرة على فهم أو تفهم الأزمة بأبعادها الحقيقية بسبب اكتوائها بلهيب الأزمة الاقتصادية، وعدم قدرة القوى اليسارية على إقناعها بأن الحرب الاقتصادية هي سبب الأزمة لما تراه بأم عينها من فساد واستغلال للسلطة وكسب فاحش غير مشروع، مما يعكس صراعاً طبقياً حقيقياً ومحتدماً تحاول أن تستغله قوى اليمين لصالحها وكأنها هي المدافع عن لقمة العيش.

 إن المعضلة التاريخية ” للثورة البوليفارية”، تتمثل أساساً، في عدم وجود حزب طليعي ثوري يقود النضال الطبقي والقومي ضد الإمبريالية العالمية والبرجوازية المحلية، ويعمل على التحويل الثوري للمجتمع من أجل بناء الاشتراكية على أسس علمية بعيداً عن التجريبية والإصلاحية والتحريفية الحديثة القاتلة ويحارب الفساد واستغلال السلطة والنفوذ .

 وقد أثبتت التجربة في العديد من المجتمعات وخاصة في فنزويلا، أنه ليس صحيحاً أن التطور التكنولوجي والصناعي رفيع المستوى للنظام الرأسمالي، والتغير الهائل والمعقد لبنائه الفوقي قد ألغى دور الحزب الطليعي في قيادة الثورة العمالية البروليتارية وبناء المجتمع الاشتراكي كطور أول من أجل الوصول لبناء التشكيلة الشيوعية.

إن مقولات الثورة السلمية، والتطور السلمي للمجتمع، والسلم الأهلي والمجتمع المدني يجب مراجعتها والتدقيق في محتواها وتحديد الهوية الطبقية للقوى التي تتبناها وتطرحها دون مراعاة الطور الذي تمر به البلاد وخاصة في مرحلة إرساء مداميك التحولات الثورية للبناء الاشتراكي. لأن التجربة العملية والتحليل العلمي أيضاً تؤكدان استحالة هزيمة عناصر وكل مكونات النظام البرجوازي القديم المتخلف، وخاصة في الطور الأول من البناء، دون ممارسة ديكتاتورية البروليتارية من خلال الحزب الثوري (الماركسي ـ اللينيني ) وليس أي حزب .

  عندما وصل القائد الراحل أوغو شافيز إلى الحكم، لمْ يصل عن طريق حزب ثوري تاريخي ذو تجربة نضالية وكفاحية طبقياً أو سياسياً، بل جاء على أكتاف العمال والفلاحين وفئات واسعة من البرجوازية الصغيرة وبعض رؤوس الأموال (الوطنية) والجنود والضباط الوطنيين الذين لم يكن بإمكانهم الاستمرار في العيش كما كانوا يعيشون في السابق، وكذلك أداة حكم الائتلاف الطبقي الحاكم في ذلك الوقت كانت بسبب الأزمات المتراكمة، قد وصلت إلى طريق مسدود ولم تعد قادرة على الاستمرار في الحكم والسلطة، مما وفر الشرط التاريخي الاقتصادي ـ السياسي والاجتماعي للثورة.

 شافيز، بسبب عبقريته ورؤيته السياسية الثاقبة وإدراكه لأهمية الحزب ، قرر تشكيل حزب يقود عملية التغير والبناء الاشتراكي في فنزويلا. ومن أجل تحقيق هذه الغاية، طلب من كافة الأحزاب التي تدعم الثورة البوليفارية أن تحل نفسها من أجل تشكيل حزب اشتراكي موحد، إلا أن طلبه هذا ووجه بالرفض، تقريباً، من كافة الأحزاب الحليفة له وخاصة من قبل الحزب الشيوعي الفنزويلي الذي أكد أن ” وجوده كحزب للطبقة العاملة والثورة الاشتراكية هو تعبير عن ضرورة موضوعية تاريخية لن يتخلى عنها تحت أي ظرف، وأنه سيستمر في المشاركة في الثورة البوليفارية ودعمها، والوقوف إلى جانب مفجرها وقائدها اوغو شافيز بكافة قواه وامكانياته من أجل التصدي لأعداء الشعب والوطن “.

هكذا لم يكن من خيار أمام شافيز إلا أن يشكل الحزب الاشتراكي الموحد بما هو موجود وممكن، وقد تم ذلك خلال بضعة أسابيع حيث فُتح باب التسجيل عبر عدة وسائل ودخل فيه الناس أفواجاً، وقد تجاوز عدد أعضائه المسجلين إلى خمسة ملايين عضو ليصبح أكبر حزب من حيث عدد الأعضاء في كل القارة الأمريكية اللاتينية. هذه الطريقة لقبول الأعضاء وبهذه السرعة وبدون تدقيق أوجدت التربة الخصبة لتسرب عدة تيارات سياسية وأيديولوجية وفكريه للحزب الجديد، جعلت منه حزب بيروقراطي برجوازي لا يمت إلى الثورة الاشتراكية بصلة وغير حاكم فعلياً وعملياً بل أقرب إلى الاله والماكينة الانتخابية والإعلامية التي تستنزف إمكانيات هائلة في المجالين الخدماتي والدعاية على حساب الجانب الانتاجي التنموي .

   المرحلة التي تمر بها فنزويلا هي مرحلة الدفاع عن الاستقلال والسيادة الوطنية وتأسيس اقتصاد انتاجي صناعي وتطوير القطاع الزراعي الانتاجي وتصنيعه لخلق توازن بين الريف والمدينة من أجل إنهاء الاعتماد على الاستيراد، وخاصة من الدول التي تعادي حكوماتها الثورة البوليفارية، وتعمل على إجهاضها بوسائل عدة. إن الاستيراد يستنزف طاقات البلاد وخاصة العملة (الصعبة) التي مصدرها شبه الوحيد صادرات النفط، والتي تصل إلى  95 % تقريباً من هذه العملة حسب مصادر البنك المركزي .

وقد أدى الهبوط المفاجئ والهائل في أسعار النفط وعدم تطبيق نظام رقابة ومحاسبة صارمين إلى تحويل القليل من الدولارات التي تدخل إلى الخزينة ” لسلعة” غير محدودة السعر مما جعل منها وسيط ووسيلة لحقن الاقتصاد الوطني بتضخم غير مسبوق وصل إلى ما يُعرف بـ ” ما فوق التضخم ” الذي لا حدود له مما أدى إلى تدمير القدرة الشرائية للعملة الوطنية وندرتها في الأسواق بسبب احتجازها من قبل المؤسسات المالية في الدول المجاورة وخاصة في كولومبيا، كما لدى خزائن التجار الكبار المعادين للنظام مما حوّل أيضاً هذه العملة” المنهارة” إلى سلعة تباع بأضعاف سعرها عن طريق  التحويلات البنكية الإلكترونية.

 إنه تحدي تاريخي وسياسي كبير، فإذا ما فشل النظام القائم وسقط يكون قد فشل في تحقيق إنجاز مهام الثورة الوطنية الديموقراطية والدفاع عن نفسه من آفة الفساد، ولا يمكن اعتباره فشلاً للاشتراكية لأنه وببساطة لم يتم بناء أي مدماك من مداميكها، ولم تبدأ أصلاً عملية التحولات الثورية الاجتماعية والاقتصادية الضرورية لبنائها .

هكذا يتضح لأي متابع للأوضاع، وحريص وقلق على مصير النظام التقدمي الفنزويلي أن الأمور تسير في الاتجاه الخاطئ، المعاكس لمسار الثورى التي تخيلها ورسم معالمها القائد الراحل أوغو شافيز.

 إن فشل كل محاولات الرقابة على الأسعار واستفحال غلاء السلع الأساسية والكمالية الذي تجاوز ال1800% خلال ستة أشهر والانهيار شبه الكامل لسعر صرف العملة الوطنية (البوليفار ) حيث وصل سعر الدولار الواحد في السوق السوداء لأكثر من 2800000 بوليفار، أدى إلى تآكل مرعب للقدرة الشرائية للدخل وخاصة للحد الأدنى للأجور الذي رفعت سقفه الحكومة إلى 2500000 بوليفار شهرياً في الأول من أيار الماضي، وأصبحت لا تكفي لشراء نصف كيلو غرام من اللحوم ! !

الرئيس مادوروا من طرفه يحاول أن يُخرج البلاد من عنق الزجاجة، بالمصالحة مع التيارات اليمينية بكل ألوانها بما فيه الفاشي، حيث أصدر عفواً عن مساجين ” لم تلطخ أياديهم بالدماء ” وأجرى لقاءات مع أعضاء في مجلس الشيوخ بما فيهم رئيس العلاقات الخارجية، وأفرج عن أمريكي أُلقي عليه القبض قبل بضعة أشهر في شقة كان يستعملها في أحد أحياء العاصمة حيث ضبطت في حوزته أسلحة ومواد متفجرة ونقود وأشياء أخرى، وأجري تعديلاً وزارياً شبه شاملاً على طاقمه الحكومي، وقرر أن ” يكافح الفساد في شركة النفط الوطنية ” وأن يرفع إنتاجها مليون برميل إضافية.

إن أي مساومة وأي مصالحة مع أعداء الثورة البوليفارية ستكون بلا شك لصالحهم، وسيبُقي القوى المحركة لها في حالة الدفاع المميتة التي دخلتها منذ رحيل القائد المؤسس اوغو شافيز. وعلى ما يبدو لا توجد قوى مهيئة ومستعدة من داخل ” الثورة” قادرة على وقف التدهور وتصحيح المصار وكبح جماح الاندفاع اليميني بما فيه الفاشي سواء في المؤسسة العسكرية والسياسية والمدنية، ولا خيار أمام القوى الثورية الحقيقية إلا التوحد والاستعداد لمواجهة الأيام العصيبة للمرحلة القادمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق