اقلام حرةالرئيسية

من_الألم_ينبع_كل_جميل / بقلم حنان العريض

ذات عودة جامعية، لم تكن لي الرغبة في الدراسة. «فكرت.. وفكرت طويلا» كيف اتجاوز هذا النفور؟ هل بسنة بيضاء؟ أم بتكوين موازٍّ. بما ان الوالدة حفظها الله كانت خياطة محترفة من هواها. لست أدري كيف تفهمون ذلك! ولكنها فعلا كذلك. كانت أشهر خياطة في وسط المدينة والأكثر حرفية ولكنها لم تدرس ذلك. بل كانت تسترق الحرفة من خياطة من أصول يهودية تسوّغت مسكن من جدّي رحمه الله. كانت الوالدة كلما عادت من الدراسة أو وجدت أوقات فراغ تذهب إليها وتساعدها في قضاء بعض حوائجها مقابل استراق النظر وتعلم الحرفة.
تقول امّي بأنها بمجرد تعلمها للقليل من الخياطة اشترى لها والدها آلة خياطة تشجيعا لها. لست أدري ماذا تقصد بالقليل؟ ربما «قصان وعطفة» والمليَة العربي وما تبعها من ثوب وغطاء الرأس. مرّت السنون أحيانا والأعوام أحيانا أخرى وأمي تمتهن تلك الحرفة. خُطبت أمي وتزوجت. ربمّا قالوا أستاذ تزوج خياطة في إشارة إلى أنها صاحبة مال ونفوذ إن كانت الامور كما نحن عليه اليوم. وما جعلني أفكر بهذا المنطق هو موقف نظير عشته. حيث خطب إبن جارنا فتاة، فسألت إبنة مَن ومِن اي عائلة؟ ذُعرت من الاجابة حين قالت لي إحداهن: يا بنتي مازلت غادي تسأل ع الأصل. قول فاش تخدم اش عندك فيها بنت شكون؟ حكاية مضت عليها أكثر من 15 سنة ولكنها لم ولن تُمحى من خاطري ومن حينها أدركت أننا سنشهد تحولات في المفاهيم الإجتماعية.
أعود إلى أمي التي تزوجت واصطحبت معها «ماكينتها» التقليدية نوع فراشة. وما ان تقدمت في التجربة اشترت ماكينة عصرية كهربائية من نوع «سنجار Singer ». كنت أحب كثيرا عمل الخياطة من خلال شغف أمي بعملها ومن خلال مساعدتها لوالدي ككل إمرأة تشتغل ومن مساعدتها للآخرين في قضاء حوائجهم. حيث كانت تقضيها بمرونة كبيرة في الدفع حد التنازل أحيانا. وكانت أمي قد ساعدت الكثيرين من المحتاجين من خلال ما توفره من مال. مساعدات عينية واخرى مادية ربما أذكر هدايا لباس العيد او المساهمة في جهاز البعض من العرسان ضعاف الحال وغيرها من الأشياء الأخرى التي أدخلت البهجة وأثلجت صدور أصحابها.
كل هذا كنت أراقبه بوعي شديد وبفخر وتقدير لكلّ صاحب حرفة. أمي كانت تُكنى «فلانة تكسي العريان، ستارة المحتاج..» كُنيات أحببتها وعلمتني معنى التكافل والمساعدة و«الناس لبعضها». ولاتزال أمي تكبر في عينيا وتشدني الي حرفتها من خلال ما تقدمه من خدمات للعائلة وللآخرين حتى وجدتني أتعلم حرفة الخياطة منها. ولكنّ أمي التي كنت أظن أنّها نجمة في مجال الخياطة لم تعد كذلك. فأمي كما وصفتها سابقا محترفة من هواها. الأمر تغيب عنه التقنيات والضوابط العلمية. ساعدتها كثيرا وتخاصمنا كثيرا بسبب ماكينة الخياطة. تقول الوالدة «الماكينة كما الكرهبة ما تحبش تبديل وكثرة اليدين» وانا لم اكترث بذلك. فعلا صدقت امي فكثيرا ما عطلتها عن العمل وكسرت الإبر… كلّ التعطيل زاد شغفي بالحرفة، فساعدت أمي كثيرا. لمساتنا « nos finissons » كانت مختلفة تماما.
المسألة باتت جدّية بالنسبة لي. وللخروج من ذلك النفور وعدم الرغبة في العودة الجامعية فكرت في التسجيل في مركز تكوين للخياطة الفرنسية الرفيعة la haute couture française. وكان ذلك. كنت مُقبلة بكل شغف على التعلم. ووفرت كل الظروف للتميز والنجاح لأعود لمدنين بخبرة فرنسية عالية. اشتريت مجلات بيردا burda بصفة شهرية. كانت مجلة بـ 7 دينارات، تعتبر غالية الثمن اضافة الى معلوم الدراسة الشهري وشراء الاقمشة وأدوات الخياطة وغيرها من الحاجيات من خلال الضغط على المصاريف الجامعية حيث كنت اتمتع بمنحة جامعية خاصة بأبناء رجال التعليم. لم يمض شهر حتى تعلمت أساسيات المهنة وبمساعدة المجلة التي كانت تُوفر جملة من التمثال لآخر صيحات الموضة. عندما رجعت إلي عائلتي في اول عطلة ابهرتهم ببدلة جينز من صنعي «made HANAN» الجميع انبهر بها. في الغد ذهبت لسوق الأقمشة واشتريت ما طاب لي وعدت. بسرعة كبيرة أخذت اقيسة أمي وانطلقت في التنفيذ للتو. ثلاث بدلات سهرات ولباس مناسبات عادية. كم كنت سعيدة بذلك ولكن سعادة أمي ووالدي كانت أكبر. أمي كانت فخورة بملابسها ولا تتردد في إعادة لبسها وكلما سألتها إحداهن «من اين اشترتهم» تُجيب أمي بكل فخر «بنتي خيطتهملي». بل أكثر من ذلك امي «جابتلي كليونات» وتجاوزت خياطة الستائر والأُوسات و«الصالونات العربي» إلى جهاز العرائس والموظفات واللباس الرفيع عموما. كلّ ذلك بسبب حدود خبرة أمي التي لم تستوفي حاجتي وبسبب نفوري من العودة الجامعية.
لم أنس ذلك تلك المعطيات النفسية التى آلمت والدي ولكنها تحولت إلى نجاحات أخرى للعائلة وأيضا جددت رغبتي وإقبالي على الدراسة. وعدت في اخر السنة بشهادة نجاح جامعي وشهادة نجاح مهني في الخياطة الفرنسية الرفيعة.
ليس كلّ وجع سلبي.. يقول أحد الفلاسفة في كتاب طالعته «من الألم ينبع كلّ جميل». نعم من الألم ينبع كلّ شيء جميل. علينا فقط أن نتفهم آلامنا والوقوف عندها والتبصّر فيها.
ذلك الألم كان منارة تُضيئ دربي. فمذ ذلك التاريخ، أصبحت كل سنة اتدرب في مجال أضيفه لمسيرتي لأُراكم به وأُثري به معارفي.
هل اقول لكم أنه لا يوجد أشرف من المهن اليدوية. هل اقول لكم ان تلك المهن تعطي راحة للجسد فيها رياضة وتحرك للجسد كامل مثل الصلاة. طبيعة تلك المهن تعطي الحياة على خلاف مهم المكاتب وجلسة الكراسي التي تبدأ بالحد من الحركة فصعوبة جولان الدورة الدموية فجذب الأمراض وصولا إلى تبلد الذهن في كثير من الأحيان.
لا أستطيع أن أُنهي حديثي عن تعلم المهن والحرف ومنافعهم لإنسجام ما اكتب مع واقعي الذي لن يعرف نهاية في علاقة بتعلم المهن والحرف والتدرب على اي عمل ولو على غسل الصحون. فعلا قد أتدرب على ذلك. منذ سنين خلت قرأت نصا لأرسطو يتحدث فيه عن مقاربات الثقافة. يقول أرسطو كل ما نفعله هو فعل ثقافي يختلف من شخص لآخر بتراكم ثقافة وخبرة الآخر. ويستدل أرسطو بالقول حتى غسل الصحون ثقافة يتباين فيها المختص عن الفاعل الهاوي او الفاعل بالضرورة والحاجة إليها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق