مقالات

الإبداع وحقوق الإنسان بقلم الكاتبه والباحثه د- دنيا الأمل إسماعيل:

 

مما لاشك فيه أنّ الإبداع الأدبي والفني، بما له من إمكانات الانتشار الواسع يمكن أن يلعب دوراً كبيراً وفاعلاً في نشر ثقافة حقوق الإنسان، ويوفر عمقاً شعبياً وجماهيرياً لحركة الديموقراطية وحقوق الإنسان، خاصة في مجتمع يعاني من العديد من المشكلات الثقافية، كالمجتمع الغزّي، حيث الوعي بالديموقراطية وقضايا حقوق الإنسان، وتحديداً المرأة منحصراً في فئة قليلة من المثقفين، ما يجعلها تتسم بالنخبوية، ومحدودية التأثير0هذا في الوقت الذي يصبح التعبير المباشر عن الأفكار والمشاعر مسألة صعبة، وربما محفوفة بالمخاطر، بينما يتوفر للرسالة الإبداعية الفنية والأدبية مزايا التعبير غير المباشر عن الأفكار والتصورات والرؤى، أي أنها تتمتع بحرية أكبر.
من المعلوم للجميع أن فكرة الديموقراطية وحركة حقوق الإنسان بشكل عام نشأت على أصول فكرية غربية، وأن أهم معضلاتها هي معضلة العالمية والخصوصية، ومن وجهة نظري يمكن للإبداع الفني والأدبي أن يلعب دور الجسر في التقريب بين ما هو عالمي وما هو خاص، فالتعبير الأدبي والفني ” خاص ” بالضرورة، وحامل للخصائص والسمات المتفردة في كل ثقافة. كما أنّ قيام حركة حقوق الإنسان على مبادئ وقيم إنسانية لاشك في جدارتها تم تقنينها في اتفاقات ومواثيق دولية، يجعلنا ننظر بالكثير من الحرص للمدخل القانوني، فواقع الحال أن هذا المدخل غير قادر وحده على التعريف بحقوق الإنسان، وتجاربنا في ذلك واضحة. على حين يمكن أن تلعب الفنون والآداب أدواراً شديدة الأهمية

 

والخصوصية في القيام بالمهمة نفسها، خاصة وأن الخصائص الفنية للإبداع والكتابة لا تتعامل مع الجمهور كمتلقٍ سلبي، بل إن الجمهور يشارك في صنع وفهم وتقييم وتفسير رسالة الإبداع، ولا معنى لأي عمل إبداعي أو كتابي أو فني دون رد فعل الجمهور، وهذا يعني أنً الرسالة الإبداعية التي يتلقاها الجمهور ويتفاعل معها بحرية – دون أن تمارس عليه أية سلطة – يكون تأثيرها أعمق وأطول، كذلك فإنّ الإبداع يحفّز الأفراد على الفعل الإيجابي بحيث تتحول الرسالة الإبداعية إلى سلوك لدى الجمهور. ويجمع الإبداع كذلك بين التربية الذاتية والتربية الجماعية، بحيث يؤسس معايير فردية وجماعية تساعد الفرد على إدراك ذاته وإدراك الجماعة وهو ما يشكل عاملاً بالغ الأهمية لنمو رسالة حقوق الإنسان.
في هذا السياق، لا يمكن الحديث عن أدب يخلو من حقوق الإنسان فصفة الأدب الأولى أنه عمل إنساني ودائماً ما كان الأدب الجيد على طول تاريخه مبشّراً بحق الإنسان في الحرية وفي النقد وفي المعرفة، وكانت أهم الأعمال الإبداعية والفنية تؤكد على حق الإنسان في تلك القيم، خاصة وأنّ الإنسان هو المادة الأولى التي يتعامل معها الكاتب/ــــــــــة، أو قل هي البئر الأولى التي يرتوي منها ويعود إليها مراراً، فكل ما يكتبه الكاتب سواء أكانت كتابته في مجال الإبداع (رواية، قصة، مسرح، شعر) أو في مجال الدراسة والتحليل له علاقة مباشرة بالإنسان،
فكل أدب أو فن إبداعي هو بالضرورة إنساني النزعة، ذلك لأن موضوع الكتابة الأهم والأبدي هو الإنسان، وكل ما يدور حول الإنسان يدور بالضرورة حول حقوقه .
كما أنّ العلاقة بين الأدب وحقوق الإنسان علاقة قديمة قدم الأدب نفسه، فالأدب الجيد على طول تاريخه كان مبشّراً بحق الإنسان في الحرية وفي التعبير والنقد وفي السعي نحو المعرفة، وكانت أهم الأعمال الإبداعية والفنية تؤكد حق الإنسان في تلك القيم،
إنّ كل آداب الشعوب في كل العصور، وخصوصاً في القرن الأخير، دانت الحروب والقتل والتمييز العنصري واستلاب الحريات والتعذيب في السجون وسجلت بطرق مختلفة أبشع صور انتهاكات حقوق الإنسان وقد تجلت إبداعاتها ومصداقيتها وشفافيتها في تلك الأعمال الخالدة التي واكبت مراحل القهر والقمع السياسي والاستعماري ومنها على سبيل المثال؛ كتاب ( معذبو الأرض) لفرانس فانون عن الاستعمار الفرنسي في الجزائر. وبالطبع كان للحربين العالميتين اللتين خاضتهما أوروبا وأمريكا، النصيب الأكبر من الأعمال التي وضعت حقوق الإنسان في بؤرة اهتماماتها، نظراً لما جرى في هاتين الحربين من عنفٍ ووحشية وجرائم ضد الإنسانية .

 

ونستطيع القول أنّ معظم الإبداعات والنصوص والكتابات، قديمها وحديثها، لا تخلو من تناول قضايا حقوق الإنسان مهما اختلفت أغراضها وميادين بحثها، و يمكن القول بكل ثقة أنه ما من نصٍ أدبي يدعو إلى تكريس مفهوم صحيح أو فضخ انتهاك أو تقويم اعوجاج قائم على أي مستوى كان إلاّ و ينتمي إلى ذلك التراكم الفاعل للتراث العالمي لحقوق الإنسان، ويساهم في التأسيس للمفاهيم الكبرى والشمولية له. خاصة إذا أدركنا بعمق أنّ الأدب كان ولم يزل الصيغة المثلى التي عاش من خلالها الإنسان يتعرف إلى ذاته وحياته. غير أنّه من المؤسف حقاً أنّ كل هذه الآداب، وكل تلك الفنون، لم تتمكن أبداً من إيقاف وحشية الحروب أو جرائم الدكتاتوريات أو انتهاكات حقوق الإنسان في أي بقعة من بقاع الأرض، بما فيها الدول الديمقراطية التي صنعت هذه الحقوق ونصبت نفسها راعية لها .
ولكن في المقابل أيضاً، فإنّ الكثير من النصوص الأدبية – خاصة لدينا نحن العرب-، اختزلت دفاعها عن حقوق الإنسان في أشكال القمع/ القهر السياسي وكان من النادر جداً أن يتبنى الأدب العربي قضايا تتعلق بحقوق الإنسان وألا يُصنف كاتبه/كاتبته باعتباره/ها محرضاً/ة على الثورة المجتمعية من دون أي اعتبار لأي خصوصية ثقافية تتعلق بحقوق الإنسان . لذلك كان دائماً ما يدخل الأدب الذي يتبنى فكرة حقوق الإنسان حقل ألغام فعلي، فهو من ناحية سوف يُتهم بأنه يتجاوز الخصوصية الثقافية لمجتمعه وقيمه الاجتماعية والدينية التي تشكل البنية التحتية القوية للمجتمع، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك لا تتعلق فقط بأدب السجون والمعتقلات (وهو بالمناسبة النوع الأدبي الوحيد المتعلق بحقوق الإنسان إلى حدٍ ما) تتعلق بحرية المرأة وحقوقها وهي الطامة الكبرى. ومن ناحية أخرى سوف يقال إنّ هذا الإبداع على الرغم من كل نواياه الطيبة والتي تتطلع إلى مجتمع أفضل، إنما يقدم صورة عن المجتمع أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها (تحريضية) بمعنى أنه يُظهر أبشع ما فيه. وإذا كانت هناك ظروف موضوعية ومراحل تاريخية معينة قد شكلت ذهنية المبدعين/ات في هذه الدائرة، إلاّ أنّ هذه الظروف قد خلقت في الوقت نفسه ذهنية موازية لدى المتلقي العربي تحتفل كثيراً بهذا الطرح الإبداعي/

 

الحقوقي، وتجد فيه متنفساً للتعبير عن حالة الرفض لممارسات القمع والإذلال التي تتعرض لها، وتسقط عن ضحايا هذه الممارسات كثيرا من سلبياتها وعجزها عن المقاومة، الأمر الذي أغرى الكتاب والمبدعين/ات إلى ولوج هذا اللون وتنمية الاحتفاء به لدى قطاع عريض من المتلقين/ات والجماهير، الأمر الذي أدى إلى حصر المسألة في الدفاع والتنديد والاحتجاج. ما أدى في النهاية إلى إغفال الاهتمام بقضية التأسيس البنيوي لحقوق الإنسان.
لذا فإنّ على من يضطلع بمهمة نشر وتعزيز ثقافة حقوق الإنسان، يجب أن يتسلح بقدرٍ كاف ٍمن الوعي للدفاع عنها، وبالتالي يصبح هناك ثمة حاجة إلى توسيع جبهة النضال الإبداعي للدفاع عن حقوق الإنسان بهدف تكوين سلطة مضادة قادرة على الفعل في إطار موازين القوى الجديدة، وكذلك التأثير الحقيقي والعميق في المجتمع.
وفي رأيي أنّ هذه الجبهة لا يمكن أن تكتسب قوتها وفاعليتها إلاّ إذا شملت شرائح واسعة جداً من المجتمع خاصة تلك التي تمتلك الوعي الكافي والمصلحة في نشر فكر وثقافة حقوق الإنسان، وذلك من خلال معرفة حقيقية بالعلاقة الجدلية بين الفكر والتطبيق والممارسة، ومما لا شك فيه أن الأدباء والكتاب والشعراء/

 

ات مع نشطاء حقوق الإنسان يشكّلون مقدمة هذه الجبهة، بما يمتلكونه من فهمٍ صحيح – فرضاً- لمفهوم حقوق الإنسان، يخرجه من دائرة الاختزال السياسي إلى الالتفات العميق إلى منظومة القيم والمعتقدات والأفكار التي تنتج التخلف، ويشوبها الجهل، في سبيل انتزاع فضاءات رحبة تنشر وتكرس قيم الرحمة والتعاطف والتضامن والمحبة والعزة والكرامة لكل

مقالات ذات صلة

إغلاق