الرئيسيةمقالات

انتصار إيران / بقلم لينا ابو بكر

لم تزل صورة ذلك الفلاح، أو البدوي الفارسي إن جاز التعبير، وهو يرصف الطوب فوق ظهر حماره قبالة مصفاة البترول الأنغلو – إيرانية الضخمة في عبدان (اعتبرها الخليفة عمر بن الخطاب إقليما متفرعا من البصرة) شاهدا على تاريخين أحلاهما مرّ. الأول يمثل وجه النظر البريطانية التي تعتبر البدوي في الصورة برهانا دامغا على التحوّل الاقتصادي الذي شهدته إيران بفضل الغرب، بينما يعكس التاريخ الثاني الخزيَ أو الذل الذي يحسّ به الإيرانيون والعرب، على حد سواء، حيال صورة الحمار أمام مصفاة البترول البريطانية!
إنه الإحساس بالنقص عند الشعوب التي تتحكّم بانفعالاتها الثورية قيم مقدّسة، تفاقم من خطورتها على الحسابات السياسية للغرب الذي يتعالى عليها، وهذا ما حدث في الثورة الإيرانية بعد خلع الشاه الذي انضم إلى مأتم الذئاب، مؤكّدا أن خادم رجلٍ ذكيّا خير من سيد خادم غبيٍّ.
الصراع بين بريطانيا وإيران، على أية حال، ليس قوامه الاختلاف على زاوية التقاط الحمار في الصورة، و لا على عروبة البدوي، ولا على انتماء عبدان الجغرافي لأرض الخلافة العربية، إنما يكمن الصراع على الإعجاب المتبادل بين الخصوم الذين ترافقوا في رحلةٍ تاريخيةٍ مشتركة لعداوة قديمة، حسب المؤرخ البريطاني علي أنصاري، ولكن ما هو سبب توادّ الأعداء، يا تُرى؟
منذ قورش الكبير إلى كسرى الأخير، وأباطرة الروم والفرس يتنافسون على الشرق، غير أن إيران التي تنتمي ثقافيا، ثم دينيا، إلى الشرق الأوسط كانت دائما ما توظف هذا الانتماء للانقلاب عليه أو التهامه. ولذلك أسّست دولة الصفويين، ولذلك أيضا قامت ثورتها الخمينية، وجاءت حرب الخليج من بعد، ثم غزو العراق، ثم حرب المليشيات التي تتصدّى لـ “القاعدة” و”داعش” في اليمن وسورية، وأخيرا دخلت في مناورات التخصيب النووي، ولكنها في هذا كله لم تتفق مع

الغرب سوى ضد العرب، ضمنيا أو علنيا. وقد يفاجئك أن تقرأ تقريرا عن الحرب في اليمن في صحيفة الإندبندنت البريطانية يعتبر أن لهجمات الحوثيين الوحشية ضد التحالف السعودي دوافعها الكافية التي تبرّرها. ولماذا نستغرب أن الرئيس الأميركي الأسبق، جورج بوش، ضمّ، عام 2002، إيران لمحور الشر الذي كان يشمل العراق وكوريا الشمالية، في الوقت الذي كان حرسها الثوري يشكل منفذا استيراتيجيا له، كما كشف سفير الولايات المتحدة السابق في العراق، خليل زاد، الذي كان يعمل على الحد من “التمرّد السني”، وعلى التنسيق الطائفي والسياسي مع إيران حتى ما قبل الغزو. ثم تكرّست “صفوة القوة” بمليشيات الحشد الشعبي، وبدت يد أميركا العليا في الحرب على الإرهاب شمالي العراق، وفرق الموت التي كانت تخوض حرب التصفيات مع أعداء الولايات المتحدة العراقيين فوق خريطة الجغرافيا السياسية، وصولا إلى المجلس الإسلامي الأعلى وحزب الدعوة اللذيْن تحالفا مع طاقم الاحتلال، حتى وإن تم تشكيل وكلاء مهديين أو بدريين لمقاومة الأميركان، فهذا كله يصب في خانة “الكسر والجبر” واللعب لا الحرب مع الكبار، طالما أن العراق، في نهاية المطاف، أصبح أذربيجان إيرانية، أو قل عتبة مقدسة وسوقا استثمارية ودينية، وربما نووية، لإيران!
انتصرت السعودية التي تحالفت دائما مع الشاه تحت المظلة الأميركية على الخميني بواسطة العراق الذي ضخّت إليه الأموال والسلاح، ليخوض حربا بالنيابة ضد إيران، ودفع العراق الثمن. خرج من تلك الحرب قوة أقوى ومركزية عسكرية عظمى في الشرق الأوسط، وحالته هذه وحدها تكفل له سقوطا مدويا، فالخليج الذي انتصر به ونصره انقلب عليه ودمّره. وهذا عكس ما حدث في سورية التي غير مصيرَها برنامج “تمبر سيكامور” (خشب الجمّيز)، وهو تمويل المعارضة السورية وتسليحها، ولكن ما النتيجة؟ خسرت السعودية العراقَ، وربح الإيرانيون الشرقَ برمته، فهل تنحاز لذيل الأسد أم لرأس الفأر؟
الحرب الباردة التي كانت جحيمها تستعر بين الطرفين انتهت منذ بداية الهبّة العربية التي اجتاحت الشرق، وحوّلت الصراع إلى مناكفة دموية بالوكالة، اخترق فيها الخط الوهمي الفاصل بين الجهتين على أكثر من صعيد، مع زيادة في التأزّم الذي بلغ ذروته في حرب النجوم الإلكترونية، أو الافتراضية، بين إيران والسعودية، وصولا إلى موقعة “أرامكو” أخيرا، والتي تعيدك إلى صورة الحمار أمام مصفاة البترول الأنغلو- إيرانية.
لقد حُلت عقدة ترامب، الرئيس الأميركي الحالي، بانحلال الركيزتين الأساسيتين لعقيدة نيكسون، الرئيس الأميركي القديم: السعودية وإيران التي كانت آنذاك حارسا أميركيا على أمن الخليج ضد حلفاء الرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر، السوفييت، فهل فعلا غيرت الثورة الخمينية ترتيب الحلفاء والأعداء، أم أن الركيزتين على حالهما، وإنْ باستراتيجية أخرى أكثر دهاء وأضمن ربحا؟
تؤكد “الإندبندنت” تجنب ترامب الحرب ضد إيران، ولكن هل يأتي هذا انصياعا للصوت الساحق في واشنطن الذي يناهض دخول حربٍ جديدةٍ ليست الولايات المتحدة مضطرة لتكبد نفقاتها وتبعاتها؟ أم أنه جنوح للعزلوية والدبلوماسية بعد خروج جون بولتون من موقعه في البيت الأبيض مستشارا للأمن القومي؟
“شرارة واحدة لم تعد كافية فعلا لإشعال إقليم يحتاج لأكثر من جحيم”. وهنا بالضبط يحفر

ترامب لنفسه حفرةً لن يستطيع الخروج منها في حال قرّرت إلى نقطة اللاعودة، فالرئيس الإيراني روحاني ليس محمد مصدق، العلماني الذي أطاح به في العام 1953 انقلاب “أجاكس” الذي نظمته الولايات المتحدة وبريطانيا ضده، لسعيه إلى تأميم صناعة النفط الإيرانية، ثم إن العقوبات التي تم فرضها في عهد الرئيس أحمدي نجاد (2005 – 2013) لم تعد رادعة، حتى وإن خسرت العملة الإيرانية ثلثي قيمتها أو أكثر، فلماذا إذن يهدد ترامب ويتوعد وتضرب طائراته ناقلات النفط الإيرانية، و يطالب السعودية بتسديد ثمن الدفاع عن منشآتها النفطية التي استهدفها الحوثيون؟
حسنا، إذن ما هي آلية الدفاع التي يقترحها ترامب، بعد كل هذا التردّد والحذر من أية مواجهة إيرانية محتملة؟ هل هي فاتورة التصريحات والتهديدات فقط؟ أم هي مقدّمة لمغامرة حقيقية تفرض على ترامب أن يخوض هذه الحرب، ليس من أجل أن يكسبها، بل لأنها آخر الحروب التي يجب أن يخوضها ليخسرها. وتعرف إيران نقطة ضعف الأميركان أمام النفط السعودي، ولن يهم ترامب تأثر السوق العالمية بعد ضرب “أرامكو”، بقدر ما يهمه أن يتقاضى مبالغ طائلة من السعودية للتعويض عن الخسائر العالمية. وهنا تحديدا تشكل إيران ركيزة أمنية للاقتصاد الأميركي الذي يمارس رجاله لعبة الابتزاز الأمني للسعودية، فكلما زاد الخطر الإيراني تصاعد الحذر السعودي، وهو ما تحتاجه الولايات المتحدة بالضبط لتجنّب الحرب.
من يخسر إذن ومن يربح؟ هل الحرب التي لم تخضها إيران ضد إسرائيل بعد هي المطلوب خسارة العراق وسورية وجزيرة العرب واليمن من أجلها؟ صحيح أنه ليس من مصلحتنا أن نكون أعداء لإيران، ولكن ليس من مصلحة إيران أيضا أن تضحّي بنا لتكسب ود أعدائها أو لتهزمهم؟
على الصعيد الشرقي، كلنا خاسرون، في سورية واليمن والعراق. من يربح فقط هو الذي يجبر أميركا على الحرب، من دون أن يسدّد فاتورتها، ومن دون أن يبدأها حتى لو لم يكسبها.. هذه حرب لا ينتصر بها سوى من يكتفي بخسارة خصمه من دون أن يخسره.

لينا ابو بكر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق