الرئيسيةمقالات

أردوغان.. رجل تركيا المريض

تكشف مستجدات الأزمة السورية -خاصة فيما يتعلق بقضية اللاجئين السوريين في تركيا الذين يتعرضون في الآونة الأخيرة لحملات قمع ودعوات إلى ترحيل قسري استجابت لها الحكومة التركية- عن فشل السياسة الخارجية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وعجز النظام التركي عن إدارة أي جانب من جوانب الأزمة السورية، ومن شأن الأخطاء التي ترتكبها الحكومة التركية على الأرض السورية أن تفاقم أزمة اللاجئين في تركيا وتصل بها إلى مستويات لا يمكن الخروج منها، ما يعرض الرئيس للمزيد من الانتقاد ويهدد بالمزيد من تآكل شعبيته.

قبل عامين انتقد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ما يذكر في كتب التاريخ عن خيانة العرب للعثمانيين، في الحرب العالمية الأولى، واصفا هذا الادعاء بأنه “كذبة تاريخية دُرِّست في المدارس التركية بشكل مقصود”.

يشير أردوغان، بشكل غير مباشر، إلى التغييرات الجذرية التي أحدثها مصطفى كمال أتاتورك، مدشنا ما بات يعرف بالجمهورية التركية الحديثة، عاملا على قطع صلة الأتراك بالعرب وباللغة العربية قَطعًا مُبْرَمًا، ومروجا لفكرة “أن العرب غدروا بالأتراك وطعنوهم من الخلف، بتحالفهم مع أعدائهم (بتحالف العرب مع أعداء الأتراك)”.

يحار المرء في تفسير التناقض الذي يبديه أردوغان، فهو يتصرف أحيانا وفق الرأي القائل “إن الدين كان عاملا مهمّا في قوة الدولة العثمانية واستمرارها”، مؤكدا أنه سوف يظل كذلك. وفي الوقت نفسه يؤكد أن “لا صديق حميما للتركي إلا التركي”.

هناك من بين العرب من وقف ضد الأتراك، في فترة انهيار رجل أوروبا المريض، لا يمكن إنكار ذلك، لكن من الخطأ أيضا اعتبار هذا الموقف يمثل جميع العرب في ذلك الوقت.

من خذل دولة الخلافة ليس العرب المسلمين، بل أتاتورك، بإعلانه القطيعة الكاملة مع العرب.

لا يمكن تفسير سلوك أردوغان إلا من منظور علم النفس، والإقرار بأنه يعاني انفصاما في الشخصية، فهو يعتقد أن بإمكانه فعل المستحيل، والجمع بين الإسلام السياسي والنظام العلماني.. يحلم بإعادة دولة الخلافة، وفي الوقت نفسه يطمح لأن يكون جزءًا من الاتحاد الأوروبي.

وصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم سنة 2002، متعهدا باتِّباع سياسة مؤيدة للاتحاد الأوروبي والحكم الليبرالي، ومنتقدا الأيديولوجيا الكمالية، بوصفها حاجزًا أمام الديمقراطية الليبرالية.

ورّط أردوغان تركيا، وورط معها الغرب وجيران سوريا، الأقارب منهم والأباعد، في حرب سيؤَرَّخ لها على أنها أحد أكثر النزاعات شراسة وتدميرًا في التاريخ الحديث، وأكثرها أيضا كلفة على الصعيد الإنساني

اليوم، وبعد 17 سنة، من يمكنه أن يصدق ذلك؟ هناك بالطبع مَن حذّر حينها مِن أن ادّعاءات أردوغان المؤيدة للغرب والليبرالية كانت “مزيفة”، مجرد جلد أفعى سيأتي وقت ينسلخ فيه من هذا الجلد، ليُظهِر انتماءَه الحقيقي إلى الإسلام السياسي، الذي سيدفعه إلى البحث عن تحالفات بعيدا عن أوروبا، وقريبا من حلم الخلافة الذي توهّمه.

وبعد أقل من عقدين على انتقاده للأفكار الأوراسية، بصفتها مناهضة لأفكاره الإصلاحية المؤيدة للغرب، ها هو اليوم يعتنق الأوراسية كسياسة أساسية لمناهضة الغرب.

عام 2013 طلب أردوغان من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مقعدا له في منظمة شنغهاي للتعاون، وهي نسخة أوراسية عن الناتو تضم روسيا والصين وأوزبكستان وطاجكستان وقرغيزستان وكازاخستان، لتصبح تركيا أول دولة أطلسية كـ”شريك حوار” في المنظمة.. وفهم حلفاء تركيا في الغرب الرسالة وأصبح واضحا لهم الطريق الذي اختاره أردوغان لتركيا.

ونجح أردوغان في ترويج الولايات المتحدة بوصفها عدوّا لتركيا، وبات سبعة من كل عشرة أتراك يعتقدون أن الولايات المتحدة تشكل تهديدا لهم وخطرا على أمن بلادهم. ولم تنجز تركيا سوى واحد من 31 فصلاً، مطلوبًا منها إنجازه، للانضمام إلى أوروبا، منذ أن أُعطِي لها الحق في بدء المفاوضات سنة 2005. استطاع أردوغان أن يخدع الغرب، أوروبا بالتحديد، وظن الجميع أن رغبته في الانضمام إلى القارة العجوز رغبة صادقة. وأعجب الجميع بتركيا، التي يمكن للسائح فيها أن يشرب الجعة على أرصفة إسطنبول، خلال شهر رمضان علنا، بينما يجلس على مقربة منه مؤمنون أتراك ينتظرون آذان المغرب، للإفطار على حبات تمر وارتشاف طبق حساء ساخن.

لكن لكل شيء نهاية، وللخديعة نهايتها أيضا، واختار أردوغان سوريا لتكون مسرحا لمغامرته التي انقلبت عليه، وقد تشهد وضع نهاية لحياته السياسية، بل قد تشهد أيضا نهاية “العدالة والتنمية”.

ورّط أردوغان تركيا، وورط معها الغرب وجيران سوريا، الأقارب منهم والأباعد، في حرب سيؤَرَّخ لها على أنها أحد أكثر النزاعات شراسة وتدميرًا في التاريخ الحديث، وأكثرها أيضا كلفة على الصعيد الإنساني.

أكثر من ستين بالمئة من سكان سوريا نزحوا منذ بداية اشتعال الصراع، وهي نسبة نزوح لم تشهدها دولة من قبل خلال العقود الأخيرة، بحسب مركز بيو للأبحاث.

وتهدد الألغام والمواد المتفجرة المنتشرة في أجزاء كبيرة من البلاد بتشويه ضحايا جدد وبقتل المزيد من الأبرياء.

ومع ذلك، ورغم الكلفة الباهظة جدا، لم تكن سوريا سهلة الهضم على أردوغان، ليجد نفسه بعد أن أشعل الحرائق عاجزا عن إطفائها، ولئن نجح في النجاة بنفسه على الصعيد الخارجي فقد فشل فشلا ذريعا على الصعيد الداخلي.

الاقتصاد هو الجبهة التي خذلت أردوغان، وهددت أحلامه بإحياء الخلافة. فاستدار إلى اللاجئين السوريين في تركيا يهدد بترحيلهم إلى ديارهم.

وانتقد أعضاء برلمان، من أحزاب المعارضة التركية، قرار أردوغان ترحيل اللاجئين وحمّلوه مسؤولية تهجيرهم من تركيا، بسبب سياساته الداعمة للتنظيمات الإرهابية.

وخرج رئيس الوزراء السابق، أحمد داود أوغلو، عن صمته بمقال من 4000 كلمة انتقد فيه الاتجاه الذي سلكه حزب العدالة والتنمية، محذرا أردوغان من أن انحراف الحزب عن مبادئه الأساسية يثير غضبًا عارمًا في صفوف القاعدة الشعبية ومستوياتها العليا، وكان من نتائجه فقدان الحزب السيطرة على إسطنبول، أكبر مدينة في تركيا.

وكان علي باباجان، وزير الاقتصاد السابق، قد استقال من الحزب معتبرا أن  تركيا بحاجة إلى “رؤية مستقبلية جديدة”.بالطبع، لم يجد أردوغان كلمة أفضل من كلمة “مؤامرة” يحتمي بها، مرجعا انهيار اقتصاد بلاده وعملتها إلى “مؤامرة خارجية”، وهو خطاب دأب على استخدامه كلما تعرض لانتكاسة، سواء أكانت سياسية أم اقتصادية.

وقال أردوغان، خلال اجتماع مع أعضاء في حزب العدالة والتنمية في أنقرة، إن “المؤامرة الخارجية تسعى إلى زيادة أسعار الفائدة، وشل نمو الاقتصاد التركي”.

أردوغان أشعل الحرائق في سوريا فعجز عن إطفائها
أردوغان أشعل الحرائق في سوريا فعجز عن إطفائها

ولم يجد أردوغان، أمام أتباعه، ضرورة لتفسير المقصود بالمؤامرة، ومن يقف خلفها.

لقد دأب الرئيس التركي على اللجوء إلى نظرية المؤامرة؛ يفعل ذلك كلما تعرضت تركيا واقتصادها إلى انتكاسة، أو تعرض حزبه الحاكم إلى خسائر، وأبرز هذه الخسائر هزيمته في إسطنبول، إذ تحدث عن مؤامرة جرى الإعداد لها لحرمان حزبه من الفوز في انتخابات المدينة، الأمر الذي اتضح لاحقا أنه غير صحيح، خاصة إثر فوز مرشح المعارضة -أكرم إمام أوغلو- مرة أخرى بالانتخابات.

الحديث عن معجزة اقتصادية رافقت وصول أردوغان وحزبه إلى السلطة، كذبة أخرى.

في 21 فبراير 2001، شهدت تركيا أسوأ أزمة مالية واقتصادية في العصر الحديث، عُرفت باسم “الأربعاء الأسود”، انهارت على إثرها الليرة التركية، لتفقد خلال شهر ما يقرب من نصف قيمتها، وهبطت بورصة إسطنبول هبوطًا حادّا، مما دفع البنك المركزي إلى تعزيز الأسواق المالية بمبالغ كبيرة، وصلت إلى ثلاثة مليارات دولار.

وتدخل صندوق النقد الدولي، مقدما المزيد من الأموال، حتى عام 2001، لتحقيق الاستقرار في سعر الصرف، وخفض أسعار الفائدة، من خلال العمل على استعادة الثقة، حتى وصل إجمالي التمويل الذي قدمه الصندوق منذ ديسمبر عام 1999 إلى ما يقرب من 30 مليار دولار.

وشرع وزير المالية حينها، كمال درويش، في اعتماد العديد من الإصلاحات التي بدأت على الفور تؤتي أكلها، حيث ارتفع الناتج المحلي بنسبة تقارب 6 بالمئة، وانخفض معدل التضخم من رقمين إلى رقم واحد، وارتفعت ثقة المستثمرين، وانخفضت البطالة تدريجيا، وفتحت تركيا أسواقها، من خلال الحد من القيود الحكومية على التجارة الخارجية والاستثمار، وخصخصة الصناعات المملوكة للقطاع العام، فبدأت هذه الإصلاحات تثمر عن نتائج طيبة، وفي هذه الأجواء بدأت الانتخابات البرلمانية التركية عام 2002، لتبدأ عام 2003 حقبة رجل تركيا المريض أردوغان.

علي قاسم

كاتب سوري مقيم في تونس

المصدر : العرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق