الرئيسية

خلطات عربية بنكهات متعدّدة

 

همسة سماءالثقافه

عندما كنت طالباً على مقاعد الدراسة الجامعية في مطلع تسعينيات القرن الماضي، كانت مكتبة “كلية الآداب و العلوم الإنسانية” بجامعة حلب عامرة بأمهات المصادر والمراجع التي تشفي غليل  الباحث الذي كان يقصدنا من أقاصي المعمورة. جذبتني دراسة اللهجات العربية، ربما كردّة فعل على تجاوز جدلية العلاقة بين اللغة الفصحى وبين القومية والدين، وكل مواقف التزمّت في استبعاد مفاهيم التطور الاجتماعي. ومع أساتذتي، قرأت “معجم الألفاظ العاميّة” لأنيس فريحة، و”موسوعة حلب المقارنة” لخير الدين الأسدي، و”معجم الدخيل في اللغة العربية” لطه باقر. لكنني لم أدرك أنّ هذه الكتب، بكل خلطات لهجاتها اللبنانية والسورية والعراقية، ذات الأصول الفينيقية والآرامية والأكادية وغيرها، سوف تُساعدنا في بيروت، مع إخواننا اللبنانيين والعراقيين، على تبادل الأحاديث اليومية، وعلى الدردشات والتعليقات والتغريدات وإرسال الرسائل الصوتية والصور والفيديوهات، عبر واتس أب وفيسبوك وتويتر. كما لم أكن أدرك أنّ المرحلة الحالية سوف تستوجب تحديد الخيارات الجديدة في البحث عن وطن بديل، ومباشرة دروس تعلّم اللغة الألمانية أو الإنكليزية أو الفرنسية، والتعرّف على لغات السويد والنرويج وهولندا، وأيحسكو حسكو - سوريا "الأرض"ضاً معرفة اللغات المتداولة في بلجيكا وكندا وأستراليا..، وذلك حسب وجهة هجرتنا.
استرجعت أيامي بجامعة حلب، فأحسست أنّ دراستي للهجات العربية صارت أمراً واقعاً، وأنّ اللغة العربية الفصحى  في مأزق .اقتنعت بهذا الواقع، وبخلطات اللهجات المتنوعة التي تصدح في بيروت يومياً تحت تأثير ضغوطات إيقاعات الحياة السريعة ومفاهيمها الاستهلاكية، وتحت تداعيات النزوح والنزاعات المسلحة. لكنني شعرت أنني تحرّرت من مفردات اللغة الخشبية لحكوماتنا، ومن لغة مواعظ أئمّة المساجد ودروسهم الدينية، وكأنّ اللغة الفصحى صارت في مكان ما، في مركز بحث رتيب، أو في مجمع لغوي متحجّر، أو عادت إلى أيام حرب “داحس والغبراء ” في الجاهلية، وأنه علينا، نحن النازحون، أن ننسى بطولات عنترة بن شدّاد، وأن نقطع الحبل مع كل تراثنا، وألاّ ننتظر أربعين سنة ليحلّ السلم الأهلي بين قبيلتي عبس وذبيان. وأن ننسى أيضاً كل التنظيرات الأيديولوجية التي قرأناها في كتابات ميشيل عفلق وزكي الأرسوزي وصلاح الدين البيطار والياس فرح، وأن نجرّب بحرية، رغم محن النزوح والتشرّد، ما يحلو لنا من خلطات لهجات متنوعة، ولكن على طريقة خلطات “الفودكا” ذات المذاقات اللذيذة، بنكهة الليمون أو التفاح أو البرتقال أو التوت…، التي تشتهر بها بارات شارع الجميزة في بيروت. وكأننا نخلط اليأس مع ما تبقّى من وعينا الإنساني لنستوعب مشاريع التقسيم والكونفدراليات التي يُلوَّح بها.
استوعبت بيروت مأساة هروبنا من خبل حكوماتنا وفشلها في حمايتنا، وفتحت حدودها للعابرين من أتون حروب أهلية أحرقت الأخضر واليابس. ولكن لم يكن معنا، هذه المرّة، رجالات التجارة والصناعة. ما أصعب محنة المدن عندما تفقد بريقها. فبيروت اليوم تغيّرت. لم تعد تشبه ذاتها أيام الستينيات والسبعينيات من القرن الفائت، ولا أيام حربها الأهلية، كما قرأنا عنها. فطبقتها السياسية التي تحبّذ اللغة الفرنسية مع أجود أنواع النبيذ والأجبان الفاخرة، وخاصة في طقوس صفقات المُحاصصة التي تعد في مآدب العشاء، كما تحبذ الإنكليزية لغة المراسلات التجارية في البنوك والبزنس، وفي أفانين الاستثمارات المالية، ومختلف العقود والمناقصات، خذلت الجميع، واستبعدت كل تفاصيل معالجة أعباء الحياة اليومية القاسية لشبابها المتعبين مثلنا.
عائلات كثيرة بعشرات الآلاف جاؤوا  يلوذون ببيروت، بكل تقاطيع سحنات وجوههم السورية والعراقية المتعبة، وأجسادهم المسكونة بعبق الفرات ودجلة والخابور، غرّبتهم الصراعات المسلحة عن بيوتهم وأماكن أرزاقهم، وخذلتهم جغرافية الأمكنة. فحملوا مع حقائب أمتعتهم  طنين لهجاتهم، بإيقاعات تجمع بين الشجن والفرح، بكل أمثالها وحكمها، وأغنياتها وأهازيجها، ومناغاة أمهاتها وهنهوناتها..، ومع “الووكمان” الذي يدسونه في آذانهم عند كل صباح، وهم مباشرون سعيهم، يهربون من ضجيج نشرات الأخبار والتحليلات السياسية، ومن سماع أحوال أوطانهم السيئة، ومن معاناة تجديد الإقامة كل ستة أشهر، وتأمين كفيل لبناني والرسوم المالية، وهواجس القلق والحيرة في مراجعة السفارات الأجنبية، واستكمال الأوراق الثبوتية المطلوبة.
يسمع أهل بيروت لغات و لهجات  كثيرة، تطنّ في آذانهم بجَرْس موسيقي وأصوات متنوعة، من مدن و أرياف الشام والعراق، وأيضاً خلطات لهجات كثيرة من  مصر بوجهيها البحري والقبلي، ومن السودان، وخلطات لغات من بنغلادش وسريلانكا والفلبين واثيوبيا.. الذين سبقونا بالمجيء إليها، هاربين من البطالة والفقر والعوز، ومن خطط حكوماتهم الإصلاحية الفاشلة، ووعودها المعسولة بالتنمية البشرية. حتى نجد عملاً ونتجاوز قائمة ممنوعات وزير العمل، علينا أن نتقن مفردات اللهجة اللبنانية وكل كناياتها وتعابيرها، ونخفي صوت لهجات مدننا وأريافنا، ونساوم على أدنى راتب يؤمن لنا حفنة دولارات  نسدّد بها أجرة الشقّة التي نتقاسمها مع أكثر من شخص، وأجور المواصلات، وأن نشتري المياه والخبز، وأيضاً أن نسدّد شهرياً فاتورتي الكهرباء والأمبيرات، ولا بأس من كأس فودكا عند المساء لننسى همومنا، وأيام مجدنا، ولو انكسرت ميزانية الشهر.
عادات وتقاليد مختلفة عن أجواء المدينة، وتغييرات ديموغرافية داخل كل حيّ بيروتي، وحكايات يومية قصيرة في الفانات التي تنقلنا كل صباح من”جسر الكولا”، أو من “جسر الدورة”، إلى أماكن عملنا أو سعينا، ولو على مستوى شراء منقوشة زعتر، أو شراء باكيت دخان أو تشريج الخط الهاتفي..، بل أيضاً أمثال شعبية متوارثة من وحي المرحلة الراهنة، وتغريبة المأساة الموجعة: “نيال مين إلو مرقد عنزة بلبنان”، وتبرير هروبنا عن أوطاننا، ومحاولات استعادة إنسانيتنا المهدورة بالتشبث بقصيدة محمود درويش “بيروت خيمتنا”، وأيضاً التشبث بروايات كثيرة، ” طواحين بيروت” لتوفيق يوسف عوّاد، “بيروت بيروت” لصنع الله إبراهيم، “بيروت مدينة العالم” لربيع جابر.. وإن كان في قناعاتنا أن نحاول التعايش مع كل معاناة شخصياتها التي نصادفها كل يوم، وأن نسامرها، فلعلنا نكتشف مفاتيح بيروت التي احتوتنا بكل مصائبنا. فأمست خيمتنا و جسور هجرتنا إلى أيّ بلد غربي.

مقالات ذات صلة

إغلاق