قراءة في: عندما يقتلك الحنين
لابراهيم يوسف
بقلم الأديبه والناقده
هيام ضمرة
قصة ليست كمثل القصص، خطَّها القاص الأديب اللبناني صاحب حلقات السرد المبدعة التي لا تتوقف الأستاذ ابراهيم يوسف، وهو ينحت فيها ملامح الفروقات في شخوص الزمن ومنهج العيش وفكر الماضي المعتق، وتطورات الزمن وتأثير التكنولوجيا الحديثة والحنين.. هو جوقة مشاعر تغرز فأسها في عمق باطن الذاكرة مستخرجة نفائس الأحداث من خُرج الماضي لرغبة ذاتية مسيطرة في استرجاعها وما أمتعها لحظات الاسترجاع من عقر دار الزمن الذي تغبَّر بالإهمال وغامت صورته حد البهوت.. والحقيقة الدامغة أنه في عمر الخريف من عادة الذاكرة أن تنتعش وقد غابت عنها الأحداث الحديثة أو بهُت لونها، وتدفّقت صور الماضي دون أي عائق يُذكر، وراح العقل الواعي يستقطب العقل اللاواعي فيتخاطبان بلغة تبادل الشوق والحنين مُضناك جفاه مرقده وبكاه ورحَّم عودته.. حيران القلب مُعذبه مقرُوح الجفن مُسهِده.. حقاً مقارنة الماضي بالحاضر تثير كثيرا من الكمد وتعمِّق حفرة الصديد، وما نجابهه نحن اليوم هو نفسه ما جابهه آباؤنا وأجدادنا من قبلنا إنما بصورة مغايرة وبحجم أكبر لاتساع حجم التغيير وما تخلف عنه من تبديل بالقيم والعادات، إنه صراع الأجيال وصراع الحضارة الداخلية المتغيرة باطراد، حيث تتقلى الأحاسيس في بوتقة واحدة ضيقة… ولقد أورد الكاتب مقطوعة باذخة غنية بالمعلومة بلغة سرديه قوية وبتصوير دقيق وذاكرة يتسرب في الأعماق، وبأسلوب نشط يقارن ويفاضل ويعادل ويحلل ويناصر.. إنه خليط النظرة الناقدة المبصرة والساردة المنتصرة.. بل هي سيرة ذاتية تأتلف الشكل السردي حاملة ملامح الزمن الجميل والبسيط بكثير اهتمام وكثير حنين، فالكاتب حين يتسلل إلى عمق ذاكرته لهدف الانتشال للصورة الأدبية!!.. غالبا ما يجد نفسه يجول في منطقة الطفولة ومن ثم الشباب، يتتبع صور تلك المنطقة ويستخرج ما ترك أثره البليغ في نفسه، واحتفر الصورة مع مشاعرها المرافقة، وحين يسكب الكاتب موجوداته على قراطيس الحنين نراها تتقلب في طبيعتها ورد فعل أحاسيسها، فتارة نرى عباراته تتراقص بحركة دؤوبة كما عصفور الدوري مستعرضا خطواته أمام عصفورته الأنثى، وتارة نراه ملتاعا يعتصر مرارة للحالة التي كانت تمر عليه في ذلك الوقت.. هي الحياة لا بد أن نتقاسم فيها الضدان خيرها وشرها إما مرحلة التقشف وإما مرحلة الانفراج، لكن هذه الصور تصبح أشدّ وضوحًا حين تُقاربنا خطوات الرحيل أو هكذا يتبدى لنا بكلِّ مشاعرها نحن يا سيدي بعمر يتقارب والفروقات لا تذكر بعمرنا الحالي، مرّ علينا ذات المشاهد تقريبا ونفس العوامل والتطورات إلى أنْ وصلنا مرحلة الخطوات السريعة والقفزات الرشيقة في التطور، ومماشاة الزمن الألكتروني على النطاق الصناعي والتجاري والشخصي، والأجهزة المحمولة الذكية التي أصبحت جزءً لا يتجزء من حياتنا، بل حالة مسيطرة على كلِّ أنظمة حياتنا، وبقد ما تفتح لنا نطاقات التواصل العالمي فإنها تغرقنا بالذاتية والتوحد وتبعدنا عن الأسرة والمجتمع القريب، لنجد أنفسنا معها ننسحب إلى الزمن المُعوْلَم الذي يقلُّ فيه انتاجنا، وتنهار معه اقتصاديات بلادنا، وتتحول فيه الحدود المفتوحة إلى انزلاقات أمنية تتلاعب فيها أيد معادية شريرة تتنقل بأريحية بين البلاد، ويُصبح فيه المواطن الإنسان من درجة متأخرة جداً سرعان ما تنقلب عليه الدوائر لو أنه تململ في موقعه معترضا على ما أصبح عليه حاله من بؤس، وصرنا في بحثنا الحثيث عن الأمن نتكور على أنفسنا لهدف إماتة إحساسنا وطي بطوننا والدخول في بيات أبدي لا مخرج منه….. أشفق على جيل جديد فقد مقومات حياته في العيش الكريم، وفقد معه قيم الحماية الذاتية أمام تفشي البطالة وهبوط الدخول والفشل في تأسيس بيت الزوجية، السكن النفسي الآمن ومبعث العزم على العطاء والانتاج، جيل اليوم مُحبَط إلى الدرجة القصوى، نعتقده سعيدًا وما هو بالسعيد، يدور على عجلة ساقية بائسة تعود به دوما إلى نقطة البداية، لذلك انقلب على تاريخه وأصوله وقيمه، متفلتا من كل شيء يسيء إلى كل شيء، التكنولوجيا ووسائل الاتصال الاجتماعي والشبكات الالكترونية وتقلص حجم العالم، والانجراف إلى أتون الانفتاح الخارق من حدود المسموح إلى حدود المذموم، ليبتعد أول ما يبتعد الانسان العربي بالذات عن هويته ونظم حياته، فصار الجار غريب، والقريب بعيد، والوالدين تركة متعبة والأبناء مسؤولية مرهقة… هناك من خطط ووضع استراتيجيات استغلالنا وقلب واقعنا، ليجعل منا عبيداً وحيوانات تجارب، وجعل بين أيدينا إمكانيات تسهل التواصل؛ لكنها تقلص بركة العمر وتؤدي إلى تضاؤل الجهود وأمن الحياة، وبذات الوقت تسيطر على العقول بطرق ذكية فتفصلنا عن عالم الحقيقة وتحلق بنا في أفق اللا معقول. مرورك بالذاكرة على كل هذه المحطات المختزنة ، لتنبش في الماضي وتقارن بينه وبين الحاضر بكلِّ جمالية لغوية وألم لا يتدارى لتبدو الصورة على وضوحها وكأنك تتحدث عن عالم لا يمت لهذا العالم بصلة، ينظر إليها ابن جيل اليوم نظرة استغراب وذهول غير مصدق تلك القفزة الهائلة حضاريا واجتماعيا وفكريا وعلميا، فأصاب التغير كل شيء، حتى مصطلحاتنا اللغوية تبدو له غريبة غير مريحة، وصرنا في عالمه هياكل عجيبة تجلب بصرير حركتها الازعاج، يستكثرون علينا استهلاكنا لأوكسجين الحياة، أحفادنا اليوم يعيشون عالما متحولا، يتحدثون غير لغتنا الأم، ويتغامزون حول أميتنا الألكترونية، ويضحكون من طرق لفظنا لبعض المصطلحات؛ ويرون بأزيائنا فلتات من بقايا زمن منقرض…. الحقيقة أننا من عالم غير عالمهم، لهذا سيدي فالمعاملات الانسانية تتبخر؛ والشعور الانساني يتهاوى؛ والقيمة الانسانية تهبط للحضيض والناس صارت أشتاتا مشتتة، وأجيالاً متنافرة رغم طول النص وتشعبه فقد شدني لقراءته بعمق وبكثير استمتاع، وأعادني وسط كل الانشغالات إلى ملامح عريقة من الماضي البعيد في حكم الأعمار الانسانية، والقريب في حكم التاريخ والزمن، رأيت فيه نص عملاق، يكاد يجد له وسيلة كمثل تلاعب القلم الانجليزي بالخارطة العربية، فبالامكان السعي إلى تجزئته إلى عدد من النصوص، لكن الكاتب أراد له أن يكون مسلسلا طويلاً يشمل تلك الفروقات في المناحي المختلفة من الحياة، بين ما كان بالماضي الراحل وما صار عليه الحال اليوم، وضبط محصلة التغير المتسارع على طبيعة أهل الشرق وهم يخرجون من حلقة الضيق والتزمُّت والتخلف الحضاري إلى العالم الكبير الشاسع المتحرر والمتطور.. فهل كان هذا التحرر صالحاً لمجتمهم وثقافتهم وطرق عيشهم؟؟.. لقد بدا حالهم في نظري كمثل من ارتدى ثوب أبيه فضاع جسده الضئيل داخله أشفق أكثر ما أشفق على بائع الصحف المُعاق وقد ترك عصاه تتوكأ على عامود الأشارة الضوئية ليتسنى له حمل مجموعة الصحف البائرة على ساعد يده، وهو يميل بعرجته بنصفه الأعلى بقوة متقدما نحو نافذة سيارتي يستجديني شراء الصحيفة وقد أصابتها لعنة الهجران في حضور التكنولوجيا، فأسارع إلى نقده مبلغ من المال قبل وألتقط الصحيفة على عجل قبل أنْ يشعُّ بالاشارة ضوئها الأخضر، فتأخذ الصحيفة مكانها على المقعد بجانبي، التي بالغالب تظل تنتظر من يباشر إلى قراءتها بتمعن، فأكتفي إن لاح لي الوقت بتقليبها وقراءة ما أنا بحاجة معرفته ثم أتركها لعوامل الطبيعة وأشعة الشمس لتجعلها تنز صُفرة.. صرنا شعوبا غارقة بالنزق نبحث عن طرق اختصار لتوفير عامل الوقت لنهدره بعد ذلك في التصفّح الألكتروني.. ترى إلى أين يأخذنا عالمنا الجديد؟ ومصطلح الجديد يخترق عقلي بجلافة لارتباطه بخطط عالم الشرق أوسط الجديد، يأخذني إلى عالم التدهور في فوضى الجنون الذي يؤول بدولنا نحو الدمار والانهيار الشروخ باتت واضحة فينا تضعف أنفسنا وتسلمنا للحالة القابلة للكسر.. حقيقة مؤلمة حقا لكننا بطريقة ما نتعايش معها، ونأمل أن تسالمنا وتسلم فينا مراحل عمرنا، لكنه العمر يا سيدي من شيمته الغدر خلال مراحل الارتحال عبر الزمن، حيرانة أنا أمام دمدمات الأحداث، كيف تنقلب فينا العقول وفي كتابنا الكريم ما يؤمن فلتاته ويوثق انسانيته بقيم غير قابلة للتلوث، منذ أن بدأت ظاهرة التحول تأخذ مجراها على مجتمعات العرب إبان عقد التسعينات بدأت دوله تنادي بأولويات مغايرة لما كان عليه الحال قبلها، وراحت دوله تغير وجهتها وملامح وجهها تحت عذر التطور، وفي حين بدأت عوالم التغيير تتبدى على ناس هذا العصر، كانت هناك تسريبات لمنطق العقل في ضبط أجيال هذه الحقبة من الزمن ، حين هذه التكنولوجيا أتاحت فرص أوسع للخصوصية الذاتية وفتحت في آن معا نوافذ مشرَّعة لتدفق المعلومة والتواصل المخترق للحدود يسود هذه المرحلة حالة من حالات تعري للأرواح الانسانية، لسنا ندري كيف تلاعبت بإنساننا الأفكار وحولت القط الوديع والمسالم إلى نمر نمرود، العالم بات يحمل بوادر تغيير كبيرة في كلِّ مناحي الحياة، لكن التغيير بالنفوس أشدها مرضًا، بدأنا نلحظ على انسان هذا الزمن تعريه من القيم، وبالأخص المتحكمين بمحرك السياسة والمال والسوق بدوا الأشد تعريا، الرؤية عندما تقتصر على المصالح الذاتية تتوارى الانسانية خلف أكمة المغالطات الغريبة فيعجز سلام الانسان، حتى التكنولوجيا تصبح بين يديه بكماء غير نافعة، فأشد الأمور ألما في منطقتنا العربية، هي أنظمة العمل والحقوق المهترئة، فسرعان ما يرى الموظف نفسه مصلوبا على لوح العاطلين تتهدد أسرته الضياع، ليبرز الطفل داخله يبكي برده ووحدته وقصوره واختطاف أمنه، وتواجهه حقيقة القلب داخله وقد استعر به الحنين إلى ما أصبح من الماضي وقد بات قتيلا، وهو لا يدري أي شيء صوب نحوه آلة القتل ليفيض به كل هذا الحنين فلا غرابة أن تموت الصحف الكبيرة بعد الصغيرة، ولا غرابة أن يرفع على شاهدها عبارة نريدك صامتة أبدا، فليس أحد من المعنين يريد عيونًا تتلصص على عريه وجبروته، إذن فلتموت الأصوات وتسكت الآلات وتتعملق طواحين الفاسدين والمتعصبين ليضج الطريق بالعنف وفظاعة الأحقاد وخيانة المترديين بالأخلاق وأخيرا أقول لكاتب نص عندما يقتلك الحنين الأستاذ الكبير ابراهيم يوسف.. استفق يا صديقي من سكرة الزمن وعربة التغيير القسري، فوالله رغم كل سلبيات التحول ففينا سعادة ساكنة في أعماق ذاتنا أن حظينا بمشاهدة ثورة عالم جديد يبدو بكل علومه كأنما هو ضربٌ من خيال، فالتغيير والتحوّل رفع أفق من نور من ناحية، ولكنه أطفأ جذوة قلوب كانت خزنت نورًا داخلها.. فالتغيير المتسارع كمثل السيارة المنطلقة بالسرعة العظيمة غالبا ما يُدهوِرَها ويقلبها على جانبها حجرًا صغيرًا، أو انعطافة كبيرة، ومع ذلك يستمر الناس بارتكاب حماقات السرعة، لا أقول اترك الحنين جانبًا وإنما أقول أوقف آلة القتل به ليأتي الرحيل دون ألم. الروح تنأى ولا يُدرى بموضِعها = وفي التُربِ لعمري يَرفثُ الجسَدُ والعـيشُ كالماءِ يَغشاه حـوائـِمنا = فصادرون وقومَهـم إثـرهـم وَرَدوا ومدُّ وقـتي مثل الـقـصر غايـته = وفي الهـلاكِ تـساوى الـدُرّ والبـَرَدُ ………… هيام ضمرة- الأردن