عواصم ثقافيه

«يا ليل يا عين»: عصرنا الذهبي بعيون لميا زيادة

ملاك خالد

العنوان يوحي بالطرب والسهر. نعم. هو كذلك. «يا ليل يا عين» (2015) الذي توقع الفنانة البصرية لميا زيادة (1968) ترجمته العربية (تعريب جان هاشم) الصادرة عن «هاشيت أنطوان» اليوم السبت، ضمن «معرض الكتاب الفرنكوفوني في بيروت»، هو سرد لسير عمالقة في الفنّ تقاطعت حيواتهم وإبداعاتهم، وتركوا لنا إرثاً فنياً وجمالياً يستمر في إدهاشنا وإطرابنا حتى الآن.

سرد تفاصيل حياة فنانين طبعوا صباحات العرب ولياليهم ليس أمراً يسيراً، خصوصاً مع تداخل هذه السير مع تحوّلات سياسية كبرى هزت منطقتنا والعالم. الكاتبة والرسامة اللبنانية اختارت السرد الزمني بدءاً من مطلع القرن الماضي، مع التوقف عند أحداث مفصلية، شخصية وعامة، أسهمت في إبراز شخصيات معينة واختفاء أخرى، مع مساحة بسيطة للتنقل بين أحداث وأزمنة متقاربة أو متوازية. البساطة والعمق اجتمعا في النص الذي تداخل مع الرسوم البسيطة والمتقنة بدورها، سواء بنسخته الفرنسية أو العربية.
تستقبلنا بداية حادثة ولادة الأميرة آمال الأطرش على ظهر باخرة أقلّت أسرتها الى بيروت. الولادة حدث مبهج للبدايات، لكننا سنعرف سريعاً أنّ عرافاً تنبأ للأميرة الفاتنة في صباها بأنّها ستهلك في الماء الذي ولدت عليه. وسنتابع تفاصيل حياتها المتداخلة مع سير أخريات وآخرين حتى تتحقق نبوءة العراف بحادثة غرقها الغامضة في ترعة على طريق مصيف راس البر. بين البداية والنهاية، سنتعرف إلى تفاصيل حياة الأميرة الجامحة والاستثنائية، الموهبة التي عرفت فنياً باسم اسمهان. وقد يصدم البعض لمعرفة كمّ التعنيف الذي تعرضت له والضرب الذي لوّن بشرتها النقية مراراً بسبب شغفها بالفن، إضافة الى تفاصيل عن زيجاتها الصاخبة وتعاملها مع أطراف الحرب العالمية الثانية، ما جعل كثراً يعتبرونها فنانة سخّرت علاقاتها لتكون جاسوسة.
ومع توالي صفحات الكتاب، سنتعرف إلى رائدات في الصحافة والرقص والغناء لاحقن أحلامهن من بلاد الشام الى القاهرة، درة الفن في المنطقة خلال العهد الملكي؛ روز اليوسف وبديعة مصابني وصباح ونور الهدى وسعاد محمد مثلاً. سيطلعنا الكتاب على تفاصيل في حياتهن الشخصية والفنية، وسيحتفي بكسرهن تابوهات ذلك الزمن الذي تميز بالمحافظة والكوزموبولوتية معاً.
كذلك، سيأخذنا الكتاب في رحلة ممتعة بين شوارع القاهرة التي كانت تفيض بالأفكار الثورية والمجددة كما مع هدى الشعراوي، بالتوازي مع البهجة التي نشرتها فنانات أغدقت عليهن ألقاب فخمة، كالسلطانة مثل منيرة المهدية، ونعيمة المصرية وسواهما.

وسنتعرف أكثر إلى علاقات الملحّنين والشعراء بالفنانين، كما في علاقة أحمد شوقي بمحمد عبد الوهاب، وأم كلثوم بأحمد رامي، وقصة افتتانه بـ«الستّ» ليست خافية على أحد، هو والقصبجي الذي همّشته معشوقته الى حدّ الموت فقيراً وحيداً وعازفاً خلفها، بعدما كان له فضل في اكتشافها والتلحين لها في بداياتها.
للرقص في «يا ليل يا عين» حصة محفوظة… هذا الفن الذي أبرزته ماري منصور وبديعة مصابني في كازينوهات القاهرة ودرّبتا عليه من أصبحن من نجماته المكرسات، كتحية كاريوكا وسامية جمال لاحقاً.
الحب والزواج والطلاق والصد والوصال والخيانات والخيبات والعداوات والمؤامرات والغيرة والمكائد… كثير من تفاصيل ذلك الزمن ينقلها الكتاب بأمانة ويسر. خارطة متشعبة ومتداخلة من علاقات العمل والعلاقات الشخصية تبسطها لميا زيادة وتسردها بصبر ودقة، ما يتيح فهماً أعمق لكواليس الحياة الفنية المتقاطعة دائماً مع أحداث سياسية في حينه.
الكتاب المبهج في ألوان رسوماته وأحداثه في البدايات، سينقلب مع التحولات الشخصية والسياسية والموت الذي يلاحق شخصياته المترافقة جلها مع انتهاء مرحلة صعود مثلتها الثورة المصرية وعلى رأسها جمال عبد الناصر.
قد يفاجأ القارئ بدمعه حين يعرف بالنهاية التراجيدية لبديعة مصابني التي زارتها تلميذتاها تحية كاريوكا وسامية جمال في مزرعتها في البقاع اللبناني، لتجداها تهتم بدجاجاتها مرتدية معطفاً من الفرو. وقد يدق قلب محبّ لعبد الناصر بقوة حين يسرد الكتاب ماذا حدث يوم إعلان تأميم قناة السويس، والغضب سيكون نصيب كثر حين تستعرض الكاتبة تفاصيل نكبة فلسطين. بعضهم سيتعجب من نفوذ أم كلثوم وتسلطها، لكن عشاق الطرب سيسعدون بلقائها الفني مع محمد عبد الوهاب بعد سنوات طويلة من القطيعة، بتدخل مباشر من قيادة الثورة.

النكسة وموت عبد الناصر وبعده أم كلثوم ستستجلب من الذاكرة مشاهد خروج الجماهير في شوارع المدن العربية مطالبين «الريس» بالعودة عن قرار التنحّي وصور البكاء الطفولي حزناً على قامتين عربيتين طبعتا مرحلة سياسة وفنية بأثرهما الصعب التكرار.
استعراض حفلات أم كلثوم وأغاني كل أول خميس في الشهر قد يدفع بالبعض الى تشغيل تلك الاغاني والاستسلام لتطريب «كوكب الشرق» فيها مرة أخرى، فيما آخرون سيحزنهم مصير سامية جمال والظلم الذي لحق بليلى مراد بسبب شائعة مغرضة من طليقها أنور وجدي. كلتاهما ماتت مغمورة ومنسية بعد سنوات من الضوء والمجد والشهرة. أما فيروز والرحابنة، فسنحنّ معهم الى لبنان الجميل الذي سكن أغانيهم، وسنراجع معهم ريبرتواراً ثرياً من الأغنيات والقصائد والمسرحيات الجميلة التي كانت فيروز قاسمها المشترك.
«يا ليل يا عين» كتاب جميل ومؤثر عن الفن الذي يتداخل مع تفاصيل إنسانية وشخصية متقاطعة مع أحداث تاريخية كبرى. سرد بسيط مباشر وسهل الانسياب، إلى درجة أنه سيمتع قارئاً متمرساً ومراهقاً يودّ إجراء بحث عن الفنانين الذين يتحدث عنهم الكتاب. هذه البساطة ليست تقليلاً من أهمية الكتاب الأدبية وقيمته، بل تكريس لهما، فهي التي تجعل قراءة أكثر من 570 صفحة مدجّجة بالمعلومات والقصص المتشابكة أمراً يسيراً وممتعاً.
المكتبة العربية بلا شك ينقصها مثل هذا العمل التوثيقي البصري والنصي، وسيكون مثرياً لها تكرار هذا المزج بين الفنون البصرية والكتابة في تجارب أخرى، لا سيما مع انتشار الغرافيكس والمؤثرات الفنية الإبداعية بين الأجيال التي لم تعايش الزمن الذي يتناوله «يا ليل يا عين».
الكتاب يمثل رحلة زمنية وبصرية الى وقت كان الفن يتمتع فيه بقيمة إبداعية قادرة على التغيير والتثوير، وشد العصب الوطني والتأريخ لمفاصل سياسية أساسية في حياة الشعوب في منطقتنا. بين صفحاته، نصوص وألوان وحكايات تقاطعت فيه قصص شخصية للكاتبة وعائلتها، مع الفنانين الذين تحدثت عنهم، ما يجعل «يا ليل يا عين»، رغم طوله، أكثر حميمية وشخصية وقرباً من القراء.
* توقيع «يا ليل يا عين»: 17:30 بعد ظهر اليوم ــ جناح «مكتبة أنطوان» (معرض الكتاب الفرنكوفوني ــ بيال)


من قصص واخبار «يا ليل يا عين»

– تحية كاريوكا تركت عرضاً لها في مسرح بيروتي لتشد فرنسية من شعرها ولتضربها «علقة» لدى معرفتها بأن الشقراء الجميلة قد تكون على علاقة مع زوجها آنذاك، الدونجوان رشدي اباظة.
– تنافس منيرة المهدية وأم كلثوم على نجومية الطرب في زمنهما انتهى بزيارة أم كلثوم لمنيرة في عوامتها على النيل. قدمت لها المضيفة فنجان قهوة ولكنها ارتشفت منه اولاً لتطمئن أمّ كلثوم بأنّ لا سم في الفنجان، «رغم أنّ المدينة كلها تعتقد أنّ عندي اسباباً تدفعني لقتلك» كما مازحتها.
– منافسة أخرى لأم كلثوم كانت اسمهان. الأخيرة كانت تخشى الغناء أمام الجمهور وتفضل الافلام والاستديوهات، فيما كانت أمّ كلثوم تسلطن وتجود في غنائها امام الجماهير.
– مجلة «روز اليوسف» هي الوحيدة عربياً التي تحمل اسم صاحبتها. تصميم «فاطمة» الآتية من لبنان الى مصر انذاك على أن تحمل مجلتها اسمها الذي منحتها إياه الاسرة التي ربتها، كان لأنّها ارادت أن تدافع عن الممثلات التي كانت احداهن اصلاً. ولاحقاً، توسعت اهتمامات روز والمجلة لتشمل السياسة والمجتمع. كان قرار روز اليوسف صائباً واستمرت المجلة عبر الزمن مكرسة مكانتها الصحافية والتقدمية.
– بعد تنظيم اول تظاهرة نسائية ضد الوجود الانكليزي في مصر التي ضمت نحو 300 سيدة غطين وجوههن بأغطية رقيقة تعرف باليشمق، وفي العام 1923 تحديداُ ولدى عودتهما من اول مؤتمر نسائي في روما تشارك فيه مصر، نزعت هدى الشعراوي ورفيقتها سيزا نبراوي اليشمق في محطة القاهرة لتسببا صدمة اولأ ولتحذو حذوهما كثيرات لاحقاً وبينهن صفية زغلول زوجة الزعيم سعد زغلول.
– السينما المصرية الخالصة بدأت على يد طلعت حرب المصرفي الوطني الذي اسس «استوديوهات مصر» برؤوس أموال مصرية. حرب كان له دور كبير في تطوير الفن السابع في القاهرة، اذ أوفد كثيرين لدراسة تقنيات السينما في الخارج، إضافة الى دعمه العديد من الفنانين كأسمهان وشقيقها فريد شوقي.
– حتى بعد الثورة، ظل الرقص الشرقي اساسا ًفي الافلام كما كان ايام السينما الصامتة وفي العهد الملكي. فبعدما رقصت عزيزة امير في فيلم «ليلى»، باتت كل الافلام المصرية تشمل وصلة رقص شرقي تلحق بالحبكة بشكل ما. ومن هذا الباب دخلت تحية كاريوكا وسامية جمال عالم السينما.
– كان عبد الناصر سبباً مباشراً لتعاون أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب الفني الذي كانت باكورته «انت عمري». أغنية أطربت الملايين عبر «صوت العرب» حيث غنتها الست.
– بعد موت محمد القصبجي، تخلت أم كلثوم عن العود في تختها الشرقي وأحيت بقية حفلاتها أمام كرسي القصبجي الخالي الذي اسند عليه العود مقلوباً.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق