فلسطين تراث وحضاره

عَـتَبٌ على التغريبة / الكاتب علي الشافعي

عَـتَبٌ على التغريبة الكاتب علي الشافعيimage image image image imageimage
القضية الفلسطينية ــ أيها السادة الأفاضل ــ مرتع لكتّاب الدراما العربية ومخرجيها , يرتعون فيها ما شاء لهم أن يرتعوا , فيظهرون كثيرا من المسلسلات التي كانت تبرز الحدث من الخارج , ولا تغوص عادة في أعماق الحياة اليومية للواقع الفلسطيني . وحيدٌ هو المسلسل الذي تناول تلك الحياة بدقة وإتقان ؛ إنه مسلسل التغريبة الفلسطينية , حيث وصف حقيقة الحياة في ريف الشمال الفلسطيني إبان الفترة الواقعة بين ثلاثينات القرن الماضي , مرورا بنكبة 48 إرهاصاتها وآثارها , وصولا الى النكسة عام 67, إذ وصف كاتبنا الكبير الدكتور وليد سيف ــ وهو بالمناسبة أحد أبناء مدن الشمال الفلسطيني ( طولكرم ) ـــ حياة الفلاح في الريف الفلسطيني حاضن ثورة 1936 , بكل ما فيها من شظف عيش , وضيق ذات اليد . ثم وصف البعض العادات والقيم والمعتقدات . والخلافات التي تدور أحيانا على الأرض المشاع (أرض الدولة ) , وتكون عادة لمن استصلحها وزرعها , ويترك الأمر للمختار للبتّ بشأنها . ثم قضايا الشرف , وما يحاك من قصص حول مقامات الصالحين , إلى أن يصل إلى وصف همجية اليهود اثناء الاحتلال الغاشم , وتدميرهم المعظم قرى الشمال الفلسطيني وقتل وتشريد أهلها , ثم حياة المهجرين ومعاناتهم اليومية في المخيمات والشتات .
لكن الكمال لله وحده , ومن حقي كمواطن فلسطيني , عشت حياة الريف الفلسطيني وخاصة الريف الشمالي , أن أضع بين أيديكم بعض الملاحظات على هذا المسلسل , والتي سيوافقني عليها كثير ممن عاشوا في تلك الحِقبة من الزمن . ولا أدري هل هي من المؤلف , أو من المخرج اللذين أكن لهما كل تقدير واحترام . فلا مسلسلَ حاكى الحياة الفلسطينية كما حاكاها هذا المسلسل . لكن كما قلت : الكمال لله وحده , فأقول صلوا على النبي:
يبدا المسلسل بمنظر عام لأحدى قري الشمال الفلسطيني حيث يدور القسم الأول من المسلسل , منظر كئيب يُظهِر بيوتا طينية صغيرة مهلهلة متهاوية تكاد تسقط على رؤوس أصحابها , أكبر سورٍ حول البيت لا يزيد ارتفاعه من المتر , ولا يزيد ارتفاع أسقف بيوت القرية عن المترين , بما فيها بيت المختار الذي في العادة يكون معلما بارزا , بعليّة يطل منها على أرجاء القرية . والذي عاش في تلك القري تلك الفترة سيقول : أين البيت الريفي الفلسطيني ذو الطراز المعماري الفريد . لقد تقلبت أنا شخصيا في كثير من قري الشمال الفلسطيني بحكم عمل الوالد , وسكنت ودخلت عشرات بل مئات البيوت من ذلك الطراز , الذي لم يظهر أبدا في المسلسل . حاولت أن أسال الذين عايشوا تلك الحقبة ما إذا كانت هناك قرية بتلك المواصفات , فكانت الإجابة بالنفي . بل الكل يفتخر بالطراز المعماري الذي كان عليه بيته عند اللجوء . لذلك سأكون دقيقا في وصف البيت الريفي الفلسطيني كما عاينته , ليتعرف عليه من لم يره , وخاصة الجيل الجديد من ابناءنا الذين ما عرفوا غير البيوت المُصَندقة . ثم ليعرفوا أننا تركنا بيوتا كبيرة فريدة الطراز , وليست أكواخا متهاوية ابدلتنا وكالة الغوث خيرا منها .
يقام بيت العائلة في القرية الفلسطينية عادة حول ساحة واسعة تسمى (البيدر) , في إحدى زواياها دارة المختار , والمسجد والمدرسة , وحولها بقية البيوت ؛ بحيث تطل بوابات أحواشها على الساحة , وخلف كل بيت قطعة من الأرض صغيرة مسيجة لغايات الزراعة المنزلية تسمى (الحاكورة) , واذا ما توسّعت القرية تبنى حارة أخري بنفس المواصفات تسمى (حارة) , فتصبح القرية عدة حارات , ولكل حارة مختارها , فهناك حارة شرقية وحارة غربية , وحارة وسطى وشمالية وجنوبية , وحارة السبع والضبع , حسب حجم القرية وتوسُّعِها , وأكبرُ المخاتيرِ سناً يُطلقُ عليه لقب (مختار المخاتير), وبقية المخاتير يصبحون اعضاءً .
وللبيادر يا أعزائي في حياة أهل القرية دور كبير ففيها يجتمع الناس في مناسباتهم وأعيادهم وأعراسهم , فتنصب الخيام وتوقد النيران وتقام الولائم وتعقد حلقات السمر , وتصدح الحناجر بأعذب ألحان التراث . وفرحُ أي واحد في القرية هو فرح لجميع أفرادها , فالكل يحضر والكل يشارك حسب مقدرته . وكذلك للبيدر تنقل الغلة حيث تدرس وتذرّى ثم تنقل الى البيوت
للبيت الفلسطيني نموذجان مأخوذان من فن العمارة العربية الاسلامية , التي تتجلى في بوابات بيت المقدس ذات الأقواس الجميلة والنوافذ المزركشة . النوع الأول ما يطلق عليه البيت (ذو القناطر) والثاني (العَقْد) , والبيت ذو القناطر لمن لا يعرفه بيت كبير عرض كل جدار من جدرانه قرابة المتر , حيث يبنى بطريقة حجرين متقابلين بينهما حجارة صغيرة وطين , وارتفاعه حوالي خمسة أمتار وربما أكثر , والقناطر هي أقواس تعمل من الحجارة لتركيب السقف عليها بأسلوب معماري غاية في الدقة والاتقان . وكلما كثرت قناطر البيت دل على كبره ورفعة شان أهله , فيتفاخر الناس بعدد قناطر البيت فيقولون فلان بيته أربع قناطر وعلان خمسة وهكذا . أما العَقد فبنفس الموصفات , لكن تكون له أربع زوايا ترتفع فتلتقي على شكل جملون من الداخل بارتفاع حوالي خمسة أمتار , وعليه قبّة من الخارج . أمام البيت ساحة واسعة يحيط بها سور بارتفاع حوالي ثلاثة أمتار تسمى (الحوش), وهذا الارتفاع حتى لا تنكشف الحريم على أحد خارج البيت . ينتهي السور ببوابة كبيرة تطل على الساحة , يدخلها صاحب البيت على حصانه . على جانبي السور من الداخل مجموعة من الغرف الطينية الصغيرة وتسمى إحداها باللّهْجة المحلية (خُشّة) فخُشّة للطبخ في المناسبات , وأخري للمونة وثالثة للحطب ورابعة للطابون ووقوده , وخامسة وسادسة وسابعة للمواشي بأنواعها ,وفي الساحة أيضا بئر يجمع فيه ماء المطر . ولبيت العائلة باب كبير يدخل منه الحصان تقابله نافذة أو بوابة صغيرة تفضي إلى الحاكورة . وينقسم البيت من الداخل عدا مضافة المختار إلى قسمين يرتفع الداخلي قليلا ليكون مقر معيشة أصحاب المنزل ومنامهم , ويسمى (المُسطبة) والقسم الآخر لما يعز عليهم من الحلال خوفا عليه من السرقة كالحصان أو ثور البقر .
الملاحظة الثانية : يصو المسلسل المختار على أنه عميل للإنجليز ومناصر للشر , ظالم لأبناء القرية مع أن الذي عايش تلك الحقبة يقول : المختار زعيم القرية والاب الروحي لها , مسؤول عنها , تسجل عنده عقود الزواج والمواليد والأمانات وعقود الأراضي ( الطابو), ومضافته مكان تجمع أهل القرية للسمر والتشاور , وكذلك استقبال ضيوف القرية , ومع ذلك فهو مضطر لمقابلة الإنجليز في بيته , لتسيير حياة الناس اليومية , فلا شيء ينفذ الا بتصديق الاحتلال عليه .
الملاحظة الثالثة : المعلم ليس كما صوره المسلسل , فقد كان في الأغلب عالم دين وإمام المسجد , له كل الإجلال والاحترام , وما علِمنا من أحد تطاول عليه مهما كان السبب , يعلم الأولاد القران الكريم واللغة ومبادئ الحساب , ويركّز على الأدب والأخلاق . هكذا وصفه آباؤنا . وليس كما ظهر في المسلسل جل همه جمع الأجرة والغلة من الناس , حقود حسود , يسيره مختار ظلوم جهول , ليرضي السادة وكبراء البلد على حساب الفقراء , صارم في عقابة , لكنه جبان رعديد عند أول تهديد .
الرابعة المبالغة في وصف بؤس الحياة في القرى الفلسطينية , ثم وصف عائلة السبعاوي على انها مضطهدة لأنها من خارج القرية , مع أن السكنى في أي قرية متاحة للجميع , وجل أهل القرية يتوددون للغريب , وما عرف الناس هذه التفرقة إلا بعد نكبة عام 48 حيث انتشرت ظاهرة لاجئ ووطني . وللأسف كان للحكومات دور بارز في إذكائها والعزف على ربابتها .
هذه بعض الملاحظات التي لا تقلل أبدا من جهد كاتبنا الكبير , ومخرج الرواع الاستاذ (حاتم علي ) , لقد تابعت المسلسل مرات عدة, وكل مرة أخرج بفائدة . طبتم وطابت اوقاتكم ,

مقالات ذات صلة

إغلاق