مقالات
عنوان المقالة : “أصحاب الكهف: ثبات الإيمان في زمن الطغيان ” (7)
إصنع كهفك بيدك! * رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران - مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية - * السلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة.

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* مدخل: الإيمان حين يُطارد
في زمنٍ ضجّ بالباطل، وتسيّد فيه الطغيان، وارتجف فيه الناس خوفًا من السيف أو الطرد أو القهر، برز فِتيانٌ آمنوا بربهم، وقرّروا أن يكونوا أنوارًا في زمن الظلمة، لم يحملوا سلاحًا، ولم يرفعوا راية، لكنهم حملوا في قلوبهم يقينًا لم يزعزعه التهديد، ولم تطفئه سطوة البطش، إنهم أصحاب الكهف الذين سجّل القرآن الكريم قصتهم في سورةٍ كاملة، لتكون آية متجددة لكل من يسلك طريق التوحيد في زمن الفتنة.
* الكهف: ملجأ الجسد أم حصن الروح؟
لم يكن الكهف مجرد مأوى حجري لجأ إليه الفتية خوفًا من بطش ملِكهم، بل كان رمزًا لانسحاب تكتيكي لصَون العقيدة، ومكانًا تفجّر فيه الإيمان بنوره وسط ظلمة الكفر، لقد اختاروا الخروج من المدينة لا حبًّا في العزلة، بل كُرهاً للمداهنة، ورفضًا للانحناء لغير الله. ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ ( الكهف: 13) فالفتوّة هنا ليست في العمر فقط، بل في العزم والإرادة، وفي رفض الواقع المنحرف، وفي التمرد على السائد المرفوض.
* الثبات أمام الطغيان: درس للتاريخ
إن الطغاة يخشون الكلمة، كما يخشون البصيرة، وربما أكثر مما يخشون السيوف، لذلك فإن فتية الكهف لم يكونوا خطرًا عسكريًا على الملِك، لكنهم كانوا خطرًا فكريًا وأخلاقيًا، فوجودهم كان يذكّر الناس بأن التوحيد لا يُساوَم، وأن الحق لا يُختزل في قوانين البلاط.
والثبات الذي أظهروه لم يكن مجرد عناد، بل ثمرة يقين تغلغل في القلوب، حتى غدا التهديد بالسيف أهون عندهم من انحراف العقيدة، وهنا يُظهِر البعد الحقيقي للإيمان: أنه ليس مجرد أفكار في الذهن، بل مواقف تُدفع لأجلها الأثمان.
* الشباب في مفترق الطرق
إن شباب اليوم يقفون على مفترق طرقٍ حضاريّ ومعرفيّ وأخلاقيّ، حيث تتزاحم الدعوات التي تطلب منهم أن يسايروا “الموضة الفكرية” وأن يُنحّوا إيمانهم جانبًا بحجة “الواقعية” أو “التقدّمية”، في مثل هذه اللحظات، تبدو قصة أصحاب الكهف كأنها كُتِبت لهم خصيصًا، تقول لهم: لا تستوحشوا طريق الحق لقلة السالكين، واصبروا كما صبر الفتية، فإن الله لا يضيع أجر من آمن وثبت، إن الثبات على المبدأ اليوم أصبح ثورة، وإن التمسك بالقيم في زمن النفعية هو البطولة الحقيقية.
* بين الكهف الأمس وكهوف اليوم
في زماننا، تغيرت الكهوف، وتبدّلت وجوه الطغاة، لكن المعركة لم تتغير: إنها بين التوحيد والوثنية المعاصرة، بين الإيمان والاستهلاك، بين الصدق والنفاق.
قد لا يُطلب من المؤمن اليوم أن يهرب إلى كهفٍ صخري، لكن عليه أن يصنع كهفه في قلبه، في وعيه، في مقاومته اليومية للتفاهة، للفساد، للضغوط التي تُراد له أن يُطبع معها.
كم من شابٍ اليوم يُحارب في جامعته أو مجتمعه أو على منصات التواصل لأنه قرر أن يكون مبدئيًا؟
كم من فتاةٍ يُسخر منها لأنها رفضت أن تُفرّغ حجابها من معناه؟
كم من داعية يُهاجم لأنه رفض أن يكون بوقًا في بلاط السلطان؟
كل هؤلاء لهم نصيب من قصة الكهف، حين يتشبثون بثوابتهم، ويُضحّون براحتهم أو شهرتهم أو مكاسبهم، من أجل رضا الله وحده.
* الإيمان يتجاوز الزمن
لقد نام الفتية ثلاثمئة سنين وازدادوا تسعًا، لكن إيمانهم لم يهرم، ولم يتقادم، لأنه مرتبط بالمُطلق الذي لا يتغير، وهنا درس بليغ: أن الإيمان الحق لا يتأقلم مع الباطل، ولا يُبرّر الواقع، ولا يركن إلى الظالمين، بل يُشعل نوره في عتمة الزمان، ويقف ثابتًا مهما طال الليل.
* ومضة ختامية
قصة أصحاب الكهف ليست حكاية عابرة تُروى للأطفال قبل النوم، بل هي نداء للمؤمنين في كل العصور:
أن لا تنكسروا أمام الطغيان،
أن لا تتنازلوا عن الحق،
أن تثقوا بأن النصر من عند الله، وإن طال المدى.
فيا من تؤمنون في زمن التحديات،
اصنعوا كهوفكم المعنوية، واحفظوا يقينكم،
فقد قالها ربكم: ﴿وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ (الكهف: 14)
فاستمِدّوا الرباط من نور السماء، وكونوا فتيان الإيمان في زمن الغربة… ولكم مني التحية والسلام
* عنوان مقالة الغد إن شاء الله: “في جوف الحوت: نداءٌ من قلب الظلمات ”
* اللهم في ثالث أيام التشريق، ارزقنا الإخلاص والبصيرة، ووفّق أمتنا، وامنح شعبنا الأمن والسلام.
* مقالة رقم: (1986)
* 13. ذو الحجة. 1446 هـ
* ألأثنين. 09.06.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)