مقالات

* رؤية 5 * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – * السلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة. عنوان السلسلة: “أنوار اليقين: بين رحلة التوحيد والإيمان، في زمن التحديات

* عنوان المقالة: ” دعاء زكريا: حين أنجَبت العاقر نبياً ” (5)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

في ركنٍ من أركان المحراب، وقفَ نبيٌّ شيخٌ قد رقّ عظمه واشتعل رأسه شيبًا، ورفع يديه لا يطلب سلطانًا ولا مالًا، بل يسأل سؤال العاجز الواثق، سؤال من طال عليه الأمل، ولم تذبل جذوة الرجاء في قلبه:
﴿رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾ (الأنبياء: 89).
* عُقمُ الأسباب وخصوبة اليقين
زكريا عليه السلام، نبيٌّ من نسل إبراهيم، ورمزٌ للتجرد من حول الإنسان وقوّته.د، بلغ من الكِبَر عتيًّا، وامرأته عاقرٌ لا تُنجب، والزمان قد أوغل في الضعف، ومع ذلك دعا.
في عالم المقاييس المادية، لا معنى للدعاء في مثل حاله؛ لكن في عالم التوحيد، حيث لا حدّ لقدرة الله، يصبح العُقم امتحانًا للثقة، لا نهايةً للأمل.
قال تعالى: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ (آل عمران: 38).
ولم يكن دعاؤه مجرد أمنية، بل ترجمة لتوحيده؛ فلم يقل “امنحني ولدًا بأي صفة”، بل طلب “ذرية طيبة”، فجمع بين الرجاء والإيمان، وبين الشوق والنية الخالصة.
* من رحم المستحيل يولد النور
ردُّ الله على دعاء زكريا لم يكن بولدٍ فحسب، بل بنبيٍّ كريم، اسمه يحيى: ﴿يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا﴾ (مريم: 7).
وكأنما كانت البشارة مضاعفة: ولدٌ، ونبيٌّ، واسمٌ لم يُسبق إليه أحد، فجاءت الولادة تأكيدًا على أن مشيئة الله لا تُقيدها السنن، وإن جرت بها عادته، وأن رحم العاقر قد يحمل نبيًّا إذا شاء ربّ العرش، وأن من أحاط به العجز قد يُفجِّر الحياة في قلب اليباس إن لامسَ الإيمان يقينه.
* رسالة اليقين: حين يكون الدعاء عقيدة لا مهربًا
لم يكن دعاء زكريا صرخة ألم، بل فعل عبادة، وكان ردّه بعد البشارة مغموسًا بالتسبيح، فآية من الله جعلت لسانه صامتًا عن الناس، ناطقًا بالتقديس: ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً ۖ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا﴾ (مريم: 10)، فالخلوة مع الله أسمى من ضجيج البشر، والسكون أمام المنة أبلغ من أيّ كلام.
يُعلّمنا زكريا أن الدعاء ليس رديفَ اليأس، بل هو أعظم تعبير عن التوحيد، وأنّ من عَرفَ الله حقًّا، لا يضع سقفًا لرجائه، ولا يقيس قدرة الله بضعف الواقع، ففي زمن التحديات، نحن بحاجة إلى هذا النمط من الإيمان: أن نُحسن الظن بالله حتى وإن أُغلقت الأبواب، ونثق بقدرته حتى وإن ضاقت الأرض.
* في ظلال الاستجابة: كيف نبني يقيننا؟
حين تتأمل في قصة زكريا عليه السلام، لا بد أن تسأل نفسك: لماذا استُجيب له رغم خرقه لجميع “قوانين الاحتمال”؟ الجواب يكمن في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ، وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا، وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ (الأنبياء: 90).
فلم يكن دعاؤه معزولًا عن حياة من العمل، بل جاء من قلبٍ يسابق في الخير، ويتضرع بشوق وخشية، ويسكن في الخشوع.
إن اليقين لا ينبت في قلبٍ خامل، ولا ينمو في نفسٍ مترددة، إنه ثمرة مجاهدة، ونتاج علاقة حية بالله تعالى.
من أراد أن يُستجاب له في الملمات، فليبنِ علاقةً عميقة في الرخاء، فيرجو الله ويخافه ويخشع له، قبل أن يقرع بابه في الشدة.
* من المحراب إلى الجيل: استنبات اليقين في وعي الأمة
قصة زكريا ليست سيرة فرد، بل نموذج أمة.د، فالله لم يخلدها في القرآن لتُقرأ كقصة عجائبية، بل لتُستعاد كخريطة طريق حين تعقم الأسباب وتبهت الخيارات،
في زمن يُختطف فيه الوعي وتُجتثّ فيه الجذور، يجب أن نُربّي أبناءنا على يقين زكريا، لا على حسابات اليأس،
جيل اليوم بحاجة إلى من يقول له: “حتى لو كبرتَ ويَبست الأحلام، فإن نداءك لا يضيع عند من ﴿يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾”.
فمن قلب المستحيل تبدأ مسيرة الأنبياء، ومن أعماق المحراب تصعد بشارات الغد.
هكذا يُغرس اليقين، لا في الأرض فقط، بل في ضمير الأمة.
* ومضة ختامية
دعاء زكريا هو درسٌ في الإيمان العنيد، والإصرار التوحيدي، واليقين الذي يُنبت الحياة من قلب الموت.
حين لا يبقى في يدك شيء، لا تزال تملك الدعاء.
وحين تُقفل الأبواب كلها، يبقى باب السماء مفتوحًا لا يُغلق.
فكن كزكريا، لا تيأس من رحمة ربٍّ وهبَ نبيًا لعاقر، وأخرج من المحراب أمّةً من نور… ولكم مني التحية والسلام
* عنوان مقالة الغد إن شاء الله: ” انشقاق القمر: آية نبوية في وجه المكذّبين” (معجزة انشقاق القمر في عهد النبي محمد ﷺ)

* اللهم في أوّل أيام التشريق، ارزقنا إخلاصًا لا يداخله رياء، وبصيرة لا يعترضها هوى، ووفّق أمتنا لما فيه عزها، وامنن علينا وعلى أبناء شعبنا بالأمن والسلام.
* مقالة رقم: (1984)
* 11. ذو الحجة. 1446 هـ
* ألسبت. 05.06.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق