مقالات
رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – * السلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة. عنوان السلسلة: “التدجين الدعوي: هندسة الطاعة باسم النّص”( 7-8 )
د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

*
* عنوان المقالة: “الطاعة كهدف: الدين في خدمة الاستقرار السياسي” (7)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
في محطات عديدة من التاريخ الإسلامي، وخصوصًا في العصور التي اشتد فيها عود السلطان وتوسعت دائرة الهيمنة، برز خطاب ديني جديد لم يكن جوهره هو إصلاح النفوس أو تهذيب المجتمعات، بل تثبيت الولاء وتدجين العقول لصالح من بيدهم الحكم، هكذا تحولت الطاعة من كونها ثمرة من ثمار الإيمان إلى غاية تامة، بل إلى معيار للالتزام الديني، يتم من خلالها تقييم تدين الفرد وتحديد موقعه من الجماعة، ليس على أساس ما يحمل من قيَم ومواقف، بل وفق مدى انقياده للسلطة.
لقد نجح بعض الفقهاء، بقصد أو دون قصد، في تكريس “الطاعة” كقيمة عليا، تغلب على العدل، وتتفوق على النصح، وتُقدَّم على فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وتُروّج تحت عباءة النصوص الشرعية، التي تُجتزأ من سياقها، وتُؤوَّل بما يخدم الراعي لا الرعية. ومن أبرز النماذج لهذا المسار، تلك التأويلات التي تتكئ على قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾ (النساء: 59)
دون أن يُستكمل السياق، أو يُلتفت إلى شرط الطاعة في المعروف، أو إلى حدودها المرسومة شرعًا.
* هندسة الطاعة وتشكيل الوعي
تجلّت هذه النزعة في “هندسة الوعي الجمعي”، بحيث تُزرع في النفوس مفاهيم تُصوِّر كل اعتراض على الحاكم خروجًا على الدين، وكل معارضة فتنة، وكل نقد طعناً في الجماعة، بل وصل الأمر إلى توصيف المصلحين بالمفسدين، فقط لأنهم زعزعوا صورة “الاستقرار”، الذي يتم تصويره كقيمة مقدسة، حتى لو كان قائمًا على الظلم أو الإقصاء أو سحق الكرامة الإنسانية، وتُبرز خطب بعض الدعاة والوعّاظ هذا التوجه بوضوح، إذ لا تكاد تسمع حديثًا عن الشأن العام إلا وبدأ بوجوب السمع والطاعة، وإن كان الحديث عن الفساد والبطالة والظلم، ومع الوقت، تُنتج هذه الثقافة مجتمعًا خائفًا، صامتًاخانعًا، يرى في الركون إلى الواقع إيمانًا، وفي الحركة تغييبًا للعقل، بل ونقضًا للعقيدة، وجميع ذلك تعيشه الأمة واقعًا في هذا الزمان،
* التدجين عبر النصوص
ما يُثير القلق في هذا النمط من الخطاب أنه لا يُدجّن الطاعة فقط، بل يُقدّمها كمرادف للتقوى، ويُلبسها ثوب القُرب من الله، وهنا تتحول العقيدة من منظومة توجيه نحو التحرر والعدالة، إلى وسيلة للضبط والسيطرة، ويصبح الدين، الذي نزل ليحرر الإنسان من عبودية العباد، أداة لترسيخ العبودية للبشر، فكم من حديث شريف حُرِّف عن مقصده! وكم من قول للصحابة بُتر عن سياقه ليُخدم به موقف السلطان!
* البديل: طاعة راشدة لا عمياء
إن المطلوب ليس الفوضى ولا تحقير مبدأ الطاعة، بل تحرير هذا المفهوم من سطوة التوظيف السياسي، فالطاعة في الإسلام لا تُفهم إلا في ضوء المعروف والحق والعدل. والنبي ﷺ قالها صريحة: “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”، وقال: “إنما الطاعة في المعروف”. أما أن تُختزل العلاقة بين الحاكم والمحكوم في طاعة عمياء، وأن يُمنع العقل من المساءلة والمحاسبة، فهذا ليس من الدين، بل من مكر السياسة، وسوء تصرّف السياسيين.
* وفي الختام
حين تُصبح الطاعة هدفًا في ذاتها، ينقلب الدين إلى غطاء للأزمات، بدل أن يكون نورًا للهداية والتصحيح، ويُختطف النص لتثبيت سلطة الحاكم، لا لإقامة ميزان العدل، وهنا يتطلب الواجب الشرعي، لا فقط الأخلاقي، أن يُراجع الخطاب الديني، وأن يُحرر من أغلال التبعية، ليعود إلى وظيفته الأصلية: إقامة القسط، وإحياء الإنسان، لا تدجينه… ولكم منّي كل تحية وسلام.
* اللهم لا تجعل للهوى علينا سبيلًا، ولا للباطل في قلوبنا مدخلًا، واحقن دماء أبناء شعبنا وأمتنا
* مقالة رقم: (1972)
* 28. ذو القِعدة . 1446 هـ
* ألأثنين . 26.05.2025 م
رؤية 8
* الرؤية المُبصرة، تابع لتكتشف
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
* السلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة.
عنوان السلسلة: “التدجين الدعوي: هندسة الطاعة باسم النّص”
* عنوان المقالة: “الجمهور المتلقي: وعي أم تلقين؟” (8)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
في مشهد الدعوة المعاصرة، يبدو السؤال عن طبيعة الجمهور المتلقي سؤالًا محوريًا لفهم ظاهرة “التدجين الدعوي”، إذ ليس ثمة خطاب مسيطر دون متلقٍ قابل للانقياد. فهل جمهور الخطاب الدعوي اليوم جمهورٌ واعٍ يتفاعل بعقلية نقدية ومسؤولية شرعية؟ أم أنه جمهورٌ مُلقَّن، يتلقى المادة الدعوية كما تُلقَى، ويستهلكها دون مساءلة أو تمحيص؟
إن أخطر ما يصيب العمل الدعوي أن يتحول المتلقون فيه إلى “جماهير”، بمعناهم السلبي: كتلة نفسية منفعلة، تلهث خلف العاطفة وتنبهر بالأسلوب، وتُسلِّم دون مساءلة لكل ما يقال باسم الدين. وهنا تتسلل مفاهيم الطاعة العمياء، وتُغلَّف بمفردات شرعية؛ فيبدو كل أمر صادر عن المنبر وكأنه فريضة، وكل رأي يُبث وكأنه حكم رباني.
* من الوعي الفردي إلى الغيبوبة الجماعية
لقد غيّب خطاب التلقين القدرة على التفكير المستقل، فاستُبدلت مفاهيم مثل: “تدبُّر النص”، و”الاجتهاد”، و”السؤال الفقهي”، بمفردات كـ”خذها كما هي”، و”هذا قول العلماء”، و”احذر من الشك”، حتى بات التساؤل عن مضمون الخطاب يُعَدُّ ريبة، ومجرد التوقف للتأمل يُعَدُّ من مظاهر قلة الإيمان، وهكذا، يتحول النص من وسيلة هداية إلى أداة سيطرة، وتُهندس الطاعة لا على أساس فهم النص، بل على أساس الخضوع لمن يُسمّون “أهل التخصص”، مهما كانت درجة وعيهم أو موقعهم من السلطة.
* تطويع الجمهور: من الشغف بالحق إلى الولاء للشيخ
حين يُربّى المتلقي على شخصنة الدعوة، يصبح ولاؤه مرتبطًا بالشخص لا بالفكرة، ويدافع عن الشيخ أكثر مما يدافع عن الشريعة، وفي هذا السياق، يُعاد تشكيل ضمير الجمهور؛ فيتماهى مع خطابات التمجيد، ويرى المخالف خطرًا على “الدين” لا على “الرأي”، ويُغذّى على الثنائية القاتلة: “معنا أو ضدنا”، فينغلق على خطاب واحد، ويتحول إلى أداة دفاع لا عن النص، بل عن هندسة التلقين نفسها.
* بين التلقي والتفاعل: الحاجة إلى وعي نقدي
من الطبيعي أن يكون في كل مجتمع متلقون ومتحدثون، لكن غير الطبيعي أن يُلغى عقل المتلقي ويُجبر على الاصطفاف خلف رأي واحد، إن الوعي النقدي لا يعني الشك، بل يعني السؤال المشروع والبحث عن المعنى العميق للنصوص، في ضوء السياق والمقصد والمآلات، وقد حثّ القرآن على ذلك في أكثر من موضع، فقال تعالى: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ (الأنعام: 32)، ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ (النساء: 82)، ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ (الزمر: 17-18)، فالمطلوب من المسلم ليس مجرد السمع، بل التمييز.
* تحالف التلقين مع الاستبداد
لا يمكن فصل خطاب التلقين عن السياق السياسي العام، فحين تكون البيئة محكومة بالاستبداد، يصبح من مصلحة السلطة أن يُنتج منبر المسجد خطابًا يُكرِّس الطاعة ويُجرِّم المعارضة، وهنا تتشابك مصالح المستبد مع بعض من يُلبسون خطابهم لبوس الدين، فتُختزل مفاهيم البيعة والطاعة والنصيحة في صورة واحدة: “لا تخرج عن الجماعة”، والجماعة هنا ليست جماعة المسلمين بالمعنى الواسع، بل الجماعة السياسية الحاكمة، مهما فسدت أو ظلمت! وبهذا، يتحول الخطاب الدعوي من نُصرة الحق إلى حراسة الباطل باسم الاستقرار والشرعية.
* التحرر بالتعلم والتمحيص
إن كسر دائرة التلقين لا يكون بالتمرد الأجوف، بل بالتعلم الجاد والتكوين المعرفي الرصين، فالمتلقي الذي يمتلك أدوات الفهم، والقدرة على قراءة النصوص في سياقها، والتفريق بين الوحي والاجتهاد، هو القادر على تجاوز مرحلة الاستهلاك إلى المشاركة، ولا يكون ذلك إلا بتربية عقلية تضع النص في مكانه، وتفصل بين قداسته ككلام إلهي، وبين توظيفه البشري الذي قد يصيب وقد يخطئ. فبهذا الوعي، يعود النص من سجن التلقين إلى رحابة الهداية، ومن أداة تحكم إلى منارة تحرر.
* خاتمة: مسؤولية مزدوجة
إن علاج التلقين الدعوي لا يكون بإسقاط الثقة بالخطاب الديني، بل بإعادة بنائه على أسس متينة من المشاركة والتفكير والمصارحة.د، فالداعية مسؤول عن تنمية الوعي لا تشكيل القطيع، والجمهور مسؤول عن رفض الاستسلام للكسل الفكري، وبين الاثنين يُبنى خطاب يحرر الطاعة من سطوة التدجين، ويعيد للنص قدسيته لا بوصفه أداة طاعة للمتغلب، بل مصدر هداية للإنسان الحر… ولكم مني كل تحية والسلام
* عنوان مقالة الغد إن شاء الله: “الخطاب الدعوي المهادن: أبعاده وتأثيراته على المجتمع”
* اللهم لا تجعل للهوى علينا سبيلًا، ولا للباطل في قلوبنا مدخلًا، واحقن دماء أبناء شعبنا وأمتنا
* مقالة رقم: (1973)
* 29. ذو القِعدة . 1446 هـ
* ألثلاثاء . 27.05.2025 م
بقلم : د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)