مقالات

رؤية5 * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – * السلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة. عنوان السلسلة: “التدجين الدعوي: هندسة الطاعة باسم النّص”

بقلم : د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

* عنوان المقالة: “المنبر بين الحرية والتقييد: واقع الخطباء والدعاة” (5)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

كان المنبر، يومًا، منارةً تنير العقول، وساحةً لصياغة الوعي الجمعي، ومِجَنًّا للمستضعفين في وجه الطغيان، لكنه اليوم، في كثير من بلداننا، يشهد ارتدادًا خطيرًا عن رسالته، حيث أُفرغ من مضمونه، وسُيّج بأسلاك الطاعة، وقُيِّدت كلماته بقيود السلطة وتوازنات الأجهزة.
صار كثير من الخطباء موظفين لدى وزارات الشؤون الدينية، يخشون رؤساءهم أكثر من خشيتهم لله، ويلقون خُطبًا مكرورة لا تحرك ساكنًا، ولا تُشعل وعيًا، بل تُخدّر الناس باسم الموعظة.
* من منبر النبوة إلى منصة الترويض
لقد تمّت هندسة الخطباء، لا خطبهم فقط، وترويض الدعاة لا الدعوة فحسب، فصار كثير منهم أسرى لضوابط و”توجيهات” لا علاقة لها لا بالوحي ولا بالحكمة، بل بأجهزة الدولة العميقة ومصالح الأنظمة السياسية، حتى غدا المنبر بوقًا للعلاقات العامة للسلطة، لا ناطقًا باسم القرآن والسنّة.
* خطاب مفرّغ من جرأته
تراهم يتحاشون المظالم الكبرى، ويغضّون الطرف عن الفساد، ويتجنبون ذكر الاستبداد، أو الحديث عن الحريات والحقوق، وكأنّ الإسلام نزل فقط لتحسين أخلاق الجوار، دون أن يُنكر منكَرًا في قصور الحكم، أو يوجّه نصيحة لأصحاب القرار، فباتت خطب الجمعة نسخةً مكرورة من مواعظ الانكسار، لا توقظ قلبًا ولا تهزّ ضميرًا.
* التحكّم الناعم باسم “ضوابط الخطبة”
تحت لافتة “توجيه الخطاب الديني”، تُفرَض على الخطباء قائمة محظورات غير مكتوبة، يُمنعون من تجاوزها، تبدأ من نقد سياسات الدولة، ولا تنتهي عند تحذير الناس من أدوات التغريب والإفساد، وإذا خالف أحدهم الخط المرسوم، فإما استدعاء للتحقيق، أو إقصاء من المنبر، أو تشويه إعلامي.
لقد نجحت الأنظمة في صناعة “شيخ التوازنات” الذي يجيد الحديث عن النار والجنة، ويصمت عن الأرض وما عليها من ظلمة وقتلة وفاسدين ومفسدين من الحكام والمنتفعين!، وهكذا تَحوّل المنبر من موقع للمجابهة إلى مساحة لتنفيس الضغط الاجتماعي، تمامًا كما تفعل المسكنات مع المرض العضال.
* حين يُجَفَّف المنبر من رجاله
كم من خطيب شريف حُرِم من صعود المنبر لأنه نطق بالحق، وكم من داعية نقي أُبعِد لأن قلبه لا يعرف التملّق، بينما يُفسَح المجال لأهل التسطيح والتهوين، ممن جعلوا الدين طقوسًا بلا روح، ووعظًا بلا موقف، وصوتًا بلا قضية، وكم من خطيب بقي على منبره لأنه أتقن فنّ الحذر والتلون، لا لأنه حمل أمانة الكلمة!
* خاتمة: المنبر مسؤولية لا وظيفة
الخطيب الصادق ليس موظفًا في دائرة الأوقاف، بل حاملُ رسالةٍ ووارثُ نبوّة، لا يخشى في الله لومة لائم. المنبر ليس خشبةً للترويض، بل منصة للثبات والتنوير. وحين يُسكت صوتُ الحق فيه، يُمهَّد الطريق للظلم كي يتمدد، وللمجتمع أن يفقد آخر ما تبقى له من مناعة، ولن يُصلح هذا الواقع إلا إذا عاد الدعاة إلى أصل رسالتهم، واقتدوا بمن قال في وجه فرعون: ﴿قَوْلًا لَيِّنًا﴾ ولكن في موقفٍ شديد، فالدعوة الحقّة لا تعرف التزلف، ولا تُشترى بمرتبٍ ولا تُكمّم بترخيص.
فيا خطباء الأمة، لا تبيعوا منابركم، ولا تضعوا أقلامكم في جيوب السلاطين، فالساكت عن الحقّ شيطانٌ أخرس، وإن لبس عمامة!..فهل تتفق معي؟.. ولكم منّي كل تحية وسلام.

• عنوان مقالة الغد إن شاء الله: “الداعية الموظف: كيف يتحول الخطاب إلى وظيفة؟ ”

* اللهم لا تجعل للهوى علينا سبيلًا، ولا للباطل في قلوبنا مدخلًا، واحقن دماء أبناء شعبنا وأمتنا
* مقالة رقم: (1970)
* 26. ذو القِعدة . 1446 هـ
* ألسبت . 24.05.2025 م
بقلم : د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق