مقالات
رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – سلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة حول: (التيه الرقمي: كيف تُصاغ مشاعرنا في دوامة المحتوى المتقلب؟)
حين تُعادُ برمجة مشاعرنا. مقدّمة في أثر المحتوى المُتقلّب (1)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
تفتح هاتفك بحثًا عن لحظة هدوء، دقيقة من الإلهام، أو حتى تسلية بريئة، فتجد نفسك فجأة في رحلة لا تشبه ما خطّطت له، تفتح تطبيق أي تطبيقٍ مثل تيك توك أو الانستا أو الفيس أو إحدى منصات التواصل المختلفة، فتبدأ القصة: تلاوة خاشعة لآية من كتاب الله، تتبعها أغنية صاخبة، بعدها مقطع لواعظ يتحدث عن الموت، ثم راقصة تبث الفساد، ثم إعلان عن عطر رجالي، يليه مشهد من جنازة، ثم فجأة لقطة عنيفة من أحد “المقالب”، ثم ضحك هستيري، ثم مشهد غرامي مبتذل… وهكذا تستمر السلسلة.
– لسنا أمام مجرد “محتوى”، بل أمام سلسلة مشاعر متقلبة متضاربة تُقذف في وجه المشاهد كأنها مطرقة تطرق على وعيه بلا رحمة، ننتقل بين الحزن والضحك، بين الخشوع والابتذال، بين التفكر في الآخرة والإغراق في الشهوة، دون أن نُعطى فرصة للشعور العميق أو التفاعل الحقيقي مع أي من هذه المشاهد المتناقضة.
* ما الذي يحدث داخلنا؟ ولماذا نشعر بالضياع رغم كثرة “المحتوى”؟
الواقع أن الإنسان، وهو يعيش هذا التدفق المتضارب، يُصاب مع الوقت بما يمكن تسميته بـالتمزق النفسي، المشاعر تخرج من داخلنا بسرعة، لكنها لا تعود، لا تكتمل، ولا تُستقر، نشعر بكل شيء ولا نشعر بأي شيء في الوقت ذاته، يغيب التركيز، وتضطرب البوصلة، وتُستنزف النفس دون وعي.. ويمكن أن نستمر في الأكل واحتساء القهوة وارتشاف كأسٍ من الشاي..
– هذا الاضطراب العاطفي ينعكس على تصرفاتنا في حياتنا اليومية، فنصبح أكثر توترًا، وأقل صبرًا، أسرع غضبًا، وأقل تفاعلًا مع الألم أو الفرح الحقيقي، نضحك بسرعة، ونحزن بسرعة، وننسى بسرعة… وكأننا نُعاد برمجتنا من جديد، لكن دون خطة أو هدف.
– بل إن هذا الاضطراب يتسلل إلى سلوكنا العائلي والاجتماعي:
• نُصاب بالملل من المحادثات العادية.
• نتوقع من الآخرين أن يكونوا “سريعين ومثيرين” كما اعتدنا على الشاشة.
• نقارن واقعنا البسيط بمشاهد مصنوعة بإتقان.
• فننفر من الحياة الواقعية لصالح عالم “مضغوط” لا يعترف بالتفاصيل ولا يمنح للزمن حقه.
وكلما ازداد استهلاكنا لهذا النوع من المحتوى، كلما ضَعُفَ وعيَنا تدريجيًا بما نشعر به، وما نريده فعلًا، وما هو حقيقي وما هو مُلفّق، وتبدأ مرحلة خطيرة: مرحلة التبلّد العاطفي، حينما لا نعد نتفاعل حتى مع ما يستحق التفاعل، نرى مأساة فنكمل التمرير، نسمع موتًا فننظر في التعليقات، نُشاهد خيرًا أو شرًا، دون أن يُحدث فينا شيئًا.
فماذا بقي فينا من الإنسان؟
هذه المقالة هي بداية سلسلة تهدف إلى فهم هذا الواقع الجديد الذي غيّر علاقتنا بأنفسنا وبعواطفنا، بل وبمن حولنا، كيف تُصاغ شخصياتنا من خلال مقاطع عشوائية؟ ما أثر ذلك على أبنائنا؟ على علاقاتنا الأسرية؟ على وعينا؟ وعلى أخلاقنا؟
إنها رحلة تأمل صادقة لا تُدين التقنية، ولكن تُحذّر من آثارها حينما تُصبح بلا ضوابط، وتُحرّك فينا أسئلة ربما لم نعد نجرؤ على طرحها.
– نحن لا نعيش زمن المحتوى، بل زمن تشكّل النفوس من خلال المحتوى، والسؤال المطروح الآن هو: من يشكّلنا؟؟؟… وأما عنوان مقالة الغد بمشيئة الله تعالى فهو: ” التمزق الداخلي: كيف يُفقد المحتوى المتقلب الإنسانَ توازنه النفسي؟”
* اللهم احقن دماء المسلمين واجعلهم أذلة على أنفسهم أعزة على الكافرين.
* مقالة رقم: (1931)
* 16. شوال . 1446 هـ
* ألأثنين. 14.04.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)