شعر وشعراء

قصائد الشاعر الدنماركي نيلس هاو ترجمت للغة العربية / شعر نيلس هاو

القصيدة الاولى

. . ساعة والدي
أُدَوّرُ ساعةَ والدي القديمة.
لما يقرب من ثلاثةِ عقود كانت ملقاةً هنا في الدُرج
تنتظر منّا أن نتخلص منها.
هذه هي الساعة التي كان يحملها أيام عمله
مع الحيوانات والحجر والتراب.
بها خدوشٌ وعليها علامات الأشياء
التي كان يتعامل بها، لا تُماثل أيّةَ ساعةٍ أخرى من تلك التي تراها هذه الأيام،
وقد حوّل روثُ البقرِ والعَرقُ العَفِنُ لونَها إلى البُنيّ
يتبادر إلى ذهني شيءٌ بدائيّ، إحساسٌ ما،
آخذُ الساعة من الدُرج وأقوم بتدويرها.
ينطلق عقرب الثواني قُدُماً بخفّة.
مكتوبٌ على سطحها بحروف صغيرة
«مقاوَمةٌ فائقةٌ للصدمات.» أطيلُ النظر إلى العقارب
على نحوٍ ما أحسّ بالشجاعة
وأنا أرى الساعة تُبعَثُ من الموت
والعقاربَ ماضيةً بلا توقف، وهي تشير إلى الزمن بدقة.
حين كان والدي في مثل سنّي، كان يعمل في مقبرة الكنيسة
ثماني ساعات في اليوم. أما الآن فإنه يقيم هناك بشكل دائم.
ترك وراءه بضعةَ حجارةٍ وخمسةَ أطفال
– وهذه الساعة
لخمس وسبعين دقيقةً تتسابق الساعةُ الشبحُ جذلى
مع الساعات الرقمية الحديثة في المنزل.
وكأن الوقت حقاً يتكرر بانتظام ويمكن أن يمضي بالاتجاه المعاكس
إلى أن تتوقف ساعة والدي مرة أخرى
بالرغم من كل ذلك توقفاً تاماً.
ماذا عليّ أن أقول؟ أعيدُ الساعة
إلى الدُرج. يمكن لشخصٍ آخرَ سوايَ أن يتخذ القرار.

القصيدة الثانية

دفاعاً عن الشعراء
ماذا عسانا أن نفعل حيالَ الشعراء
الحياةُ تقسو عليهم
يبدون في حالٍ يرثى لها بملابسهم السوداء
جلودُهم زرقاءُ من أثر العاصفة الثلجية الداخلية
الشعر داءٌ مريع،
الذين تصيبهم العدوى يسيرون وهم يجأرون بالشكوى
صرخاتهم تلوّث الغلاف الجوي مثل التسربات
التي تحدث في محطات العقل الذرية. إنها ذات طبيعةٍ ذهانيّة
الشعر طاغيةٌ
يُؤرّق الناس ليلاً ويدمّر الحيوات الزوجية
يجذب الناس إلى بيوتٍ مهجورةٍ في منتصف الشتاء
حيث يجلسون يعانون من الألم وهم يرتدون أغطيةً للأذنين وأوشحة سميكة.
لكم أن تتخيلوا العذاب.
الشعر آفة
أسوأ من مرض السيلان، إنه رجس فظيع.
ولكن انظروا إلى الشعراء، إنه لَأمرٌ شاقّ بالنسبة لهم
تحمّلوهم!
إنهم في حالة هستيرية كما لو أنهم يتوقعون ولادة توائم
يَصِرّون بأسنانهم أثناء النوم، يسفّون التراب
والعشب. يمكثون في العراء في مهبّ الريح المولولة لساعات طوالٍ
تحت تعذيب الاستعارات المدهشة.
كلُّ يومٍ هو يومٌ مقدسٌ بالنسبة لهم.
أرجوكم، أشفقوا على الشعراء
فهم صُمٌّ عُمْي
أعينوهم في عبور حركة المرور حيث يترنحون ارتباكاً
بعاهاتهم الخفية
إذ يتذكرون كلّ ما هبّ ودبّ من الأشياء. وبين الفَينة والأخرى يتوقف أحدهم
ليستمع إلى صافرةِ إنذارٍ بعيدة.
أظهِروا لهم شيئاً من المراعاة.
الشعراء أشبه بأطفال مجانين
طَرَدهم من بيوتهم جميعُ أفراد العائلة.
ادْعوا لهم
فقد ولدوا أشقياء
أمهاتهم انتحبن من أجلهم
رُحْن يلتمسن العون من الأطباء والمحامين،
إلى أن اضطررن إلى الاستسلام
خوفا من أن يفقدن عقولهنّ.
أواه، ابكوا من أجل الشعراء!
لا سبيل إلى إنقاذهم.
فابتلاؤهم بالشعر كما مرضى الجذام الذين لا يدري عنهم أحد
يجعلهم محتجزين في عالمهم الخيالي
الذي هو بمثابة غيتو رهيب يعجّ بالشياطين
والأشباح الحقودة.
حين تشع الشمس متوهجةً في يوم صيفيٍ صافٍ
وترون شاعراً بائس الحال
يخرج مترنّحاً من المنطقة السكنية، وقد بدا عليه الشحوب
كما الجيفة وقد شوّهته التأملات
امضوا إليه وقدموا له العون.
اربطوا له حذائه، أوصلوه إلى الحديقة
وساعدوه في الجلوس على مقعد
في الشمس. غنّوا له قليلاً
اشتروا له البوظة واحكوا له حكايةً
لأنه في غاية الحزن.
فقد دمّره الشعر تدميراً.

القصيدة الثالثة
لا تلفّ ذراعَك
حول القصيدة – أنتِ رهنُ الاعتقال!
القصيدة لن تطيعَ أوامرك،
القصيدة لا تزدهر في الزنازين الانفرادية
القصيدة تهيمُ في الضواحي
تُنقّب في القمامةِ التي يلقي بها الناس
تحملُ بندقية.
القصيدة لا تثق بالقانون ولا بالمحاكم
لكنها تثق بعدالة عليا
القصيدة تدخل في جدل مع أي عابر سبيلٍ كبيرِ السِّن
القصيدةُ يسعدها أن تقف في الطابور بانتظار عاصفة رعدية.
القصيدة تمضي الليل وحيدةً
في نشوةٍ جنونية.
القصيدةُ تتسكّع في المطارات
وعلى متن زوارقِ النقلِ المكتظّة.
القصيدةُ سياسيةٌ إلى حد كبير، لكنها تبغض السياسة.
القصيدةُ مشاكسةٌ،
لكنها لا تتحدث إلا في مناسباتٍ نادرة
القصيدةُ تفسد الاحتفال،
القصيدةُ مستعدةٌ لأن تخلعَ معطفَها دائمأً
وتلاقيك في الخارج.
القصيدة تعيشُ
حالةَ اهتياج عصبي.

في أعمق الأعماق
في أعمق أعماق كلِّ
ما يحدث،
يسكنُ الصمت.
كما في الليل
حين أنهض –
والثلاجةُ تهمسُ
في المطبخ
أتناول الحليب
– أشرب
وفجأةً
أتذكر من أنا.

الكتاب: حين يصيرُ أعمى
الكاتب: نيلس هاو
عن الدار العربية للعلوم ـ بيروت، صدر ديوان للشاعر والكاتب الدنمركي نيلس هاو بعنوان (حين أصير أعمى) قام بترجمته جمال جمعة وكتب مقدمته فاضل العزاوي. والعنوان وهو يستعير العنوان من ا المعنى المعروف: (الحب يُعمي). وهكذا (أصبح أعمى من
الحب ليرى ما يجعل الحياة تستحق أن تعاش).

الروح ترقص في مهدها – قصائد مختارة للشاعر الدنماركي نيلس هاو – ترجمة نزار سرطاوي
.

مقالات ذات صلة

إغلاق