مقالات
ألم النزوح في المجموعة القصصيّة “قمر 14” للكاتبة أصيل عبدالسلام سلامة- قراءة الدكتورة روز اليوسف شعبان
صدر الكتاب عن مكتبة كلّ شيء (2024)، تصميم شربل إلياس.

تهدي الكاتبة أصيل مجموعتها القصصيّة إلى والديها وإلى الواقع الذي بخل بتجسيد معاني الطفولة: السلم، الحبّ والأمان.
تأخذنا الكاتبة في هذه المجموعة القصصيّة التي تتكوّن من قصص قصيرة وأخرى قصيرة جدّا، في سرديّة جلّها ألم، فقدان، جوع، تهجير، لجوء، ضياع، ونزوح في غزّة المنكوبة.
القصّة القصيرة جدًا هي نوع أدبي يتميّز بإيجاز شديد، لا يتجاوز النص بضعة أسطر، وأحيانًا قد يكون في سطر واحد فقط. يهدف هذا النوع إلى تقديم حدث أو موقف مكثّف يثير الدهشة أو التأمّل لدى القارئ. غالبًا ما تحتوي على عنصر مفاجئ أو نهاية غير متوقعة تثير دهشة القارئ، كما تتميّز بالرمزيّة، والتكثيف والوحدة الموضوعية. (مجلّة أوراق ثقافيّة، نيسان 2020، موقع موضوع، منصّة لبيب).
في العديد من قصص هذه المجموعة، يتراءى طيف جدّ أصيل خلف الكلمات، هذا الجدّ الذي تشتاق له فتعبّر عن شوقها ورغبتها في اللقاء به:” أريد أن يأتي النت واراسلك يا جدّي”(ص 20). :”حزينة لأنني أفتقد جدّي”(ص 19). :” أنا بخير يا جدّي وكلّي أمل أن يعود الاتّصال بالنت كي تصلك رسائلي”(ص 17).
:” أعانك الله يا جدي على قراءة رسائلي حين تصلك، أنا أكتب لك عن كلّ شيء كأنّني غبت عنك ثلاثة قرون وليس ثلاثة أيّام”(ص 25).
يمثّل الجدّ بالنسبة لأصيل، الجذور، الوطن، التاريخ، الحبّ والأمان، لكنّها في ظلّ الحرب تفتقده وتتوق لرؤيته، تفتقد الشعور بالأمان والحبّ. فهل سيعود الجد وتلتقي الكاتبة به ويعود الشعور بالأمان إلى قلبها؟
تتطرّق أصيل في العديد من قصصها إلى قصصها الشخصيّة العائليّة، فهي الساردة بضمير المتكلّم، تسترجع في سردها ذكرياتها الجميلة في بيتها، نزوحها من البيت بحزن وألم، العيش في خيام النازحين، بكلّ فيها من ألم، خوف، رعب، جوع، حسرة وحرمان. في قصّة البيت (ص 89) تذكر الساردة النزوح الأوّل لوالديها بعد النكبة عام (1948) من الرملة إلى رفح، وها هو النزوح الثاني الذي يجعل الأسرة تحزم أمتعتها بعد أن تلقّت إنذارا بإخلاء البيت، فتستحمّ أصيل قبل المغادرة، وتطلب من والدتها أن تقصّ لها شعرها الجميل الذي أحبّته جدتها، تقول أصيل:” ثمّ سرحت وأنا أتأمّل أشجار الحديقة وحيطان البيت الذي سنغادره مضطرين، مثلما غادر أبي وأمّي بيتهما قبل سنوات”. (ص 89). وهكذا تبدأ أصيل وعائلتها في مسيرة شاقّة من النزوح والحزن والألم. وتتوالى الصور والمشاهد المؤلمة من داخل غزّة، فتسترجعها الكاتبة بكثير من الحسرة والتأثّر. فها هو العيد يطلّ عليهم، حزينا صامتا بعد أن كان يملأ البيوت والساحات فرحا وبهجة، وتلك طفلة نازحة تفرح بالماء الذي وصل بعد انقطاع (قصة الماء ص 31)، وعروس تفقد ساقها من القصف (ص 33)، أسير يخرج من السجن الانفراديّ بعد ثلاثين عاما جثّة هامدة (قصّة أسير ص 31). وفي قصّة لون الجوع (ص 70)، تصوّر الكاتبة حالة الجوع التي تعتري الأطفال، فيرسم الطفل رغيف الخبز ويلوّنه بلون الجوع. في قصّة حيرة (ص 71) تصوّر شخصا يفكّ خيمته لا يعرف أين سينزح مجدّدا، وفي قصّة أسئلة (ص 87) تتساءل الساردة أين ستقيم هي وأهلها؟ هل سيجدون خيمة تؤويهم؟ هل ما أخذوه من فراش وملابس وأغطية تكفيهم؟ ماذا سيحدث للبيت الجميل بعد نزوحهم؟ كلّ هذه الأسئلة تدور في خلد الساردة ومثلها في نفوس جميع النازحين، هذه البيوت التي شَقَوْا في بنائها، وعاشوا فيها سنين عمرهم مع أولادهم وأحبابهم، بكل ما فيها من ذكريات وفرح وشقاء وكفاح من أجل لقمة العيش، كلّ ذلك هُدم كأنّ شيئا لم يكن، حتى بعد إعلان الهدنة تم قصف البيوت وقتل الناس، ففي قصّة تهنئة (ص 60) تصوّر الكاتبة قصف أحد البيوت ومقتل صاحب البيت بعد أن تلقّى مكالمة لتهنئته ببشرى الهدنة.
لم تغفل الكاتبة ذكر معاناة البيت الذي أنسنته وجعلته يحزن على نزوح ساكنيه، تقول في قصّتها من يوميّات بيتنا (ص 97):” الياسمين في حديقتي ينتظرهم، نبتة العطرة تحتفظ برحيقها لهم، مدخل البيت ينتحب لعدم مرورهم فوقه، باب الشقّة وباب المنزل ما زالا مغلقيْن بالمفتاح، لن يفتحهما أحد غريب سأدافع بكلّ ما أوتيت من وفاء…”.
وفي غمرة هذه القصص المؤثّرة تأتينا الكاتبة بقصص أخرى تصوّر واقع الحياة. ففي قصّة لقاء (ص 40) تتطرّق الكاتبة إلى علاقات الحبّ التي تكون من طرف واحد، وما تتركه من ألم على الحبيبة المغدورة، وفي قصّة غرور تذكر غرور الإنسان بنفسه، وغيرها من القصص الاجتماعيّة.
فهل يمكن اعتبار هذه القصص قصصا قصيرة جدّا؟
في معظم قصص المجموعة وجدت أنّها تخلو من عنصريّ المفارقة والدهشة، وإنّما هي استرجاع لأحداث عاشتها الكاتبة خلال فترة الحرب، وقد تكون خواطرَ أو مذكّرات، أو تصويرا لمشاهدَ لا تروق للكاتبة فتنتقدها، مثل قصّة استثمار (ص 48) لتي تنتقد فيها ظاهرة التسوّل:” قرب القلعة تجلس متسولة وتقول:” شيء لله”. أعطاها أحد المارّة شاقلا فقالت له غاضبة:” هذا قليل”، ثمّ تنحنحت لتقول” أقصد أبهذا ستلقى الله؟ شيء لله”.
كذلك قصّة فستان (ص 49)، وقصّة حبّ (ص 51)، وقصّة عقد (ص53)، وملاحقة (ص 63)، وغيرها الكثير..
وهناك بعض القصص التي خلت من الدهشة والمفارقة لكننا نجد فيها رمزية وتكثيفا في المعنى مثل قصّة وطن:” رأى فيها وطنه فأحبّها، تعلّق بها، أدمنها بجنون، ثمّ تزوّجت من غيره. يا للمسكين! نسي أنّ الوطن يغزوه محتلّون”. كذلك نجد عنصري التكثيف والرمزية في قصّة مثال (ص 56):” قال الأستاذ:” السلسلة الغذائيّة تكون باعتماد طرف على الآخر”. من يعطيني مثالا: الطالب النجيب قال: عصفور، أفعى. وطالب من آخر الصّف أجاب بغصّة: وطن، قائد، ظهرت الرمزيّة أيضا في قصّة معلمتي(ص59).
هناك العديد من القصص التي وجدت فيها عنصريّ المفارقة والدهشة منها: قصّة حريق (ص 67)، قصّة قمر 14 التي تحمل هذه المجموعة اسمها:” الشاب ينتظر الفتاة التي أحبّها بفارغ الصبر، بعد أن أعطته موعدا كي تراه. سألته عن طلّتها فقال: قمر 14. شكرته على رأيه وذهبت كي ترى حبيبها”.
وفي قصّة خروج (ص 84) نجد المفارقة والدهشة أيضا:” رفع بيده ستار الخيمة وخرج. لسعه الهواء، هرب إلى ذراعيّ أمّه، فوجدهما أكثر برودة، وثمّة أصوات عويل حولها وبكاء”.
وفي قصّة حرص (ص 73)، نجد المفارقة والدهشة حين اكتشفنا أن الأم أيضا وقعت في شباك الشباب: أمسكت يد ابنتها بخوف وحرص شديدين؛ لتحذّرها من الشباب، فكم أوقعوا البنات في شباكهم، وأضمرت في نفسها:” حتّى أنا”.
إجمال:
كتبت هذه المجموعة بلغة سلسة جميلة وبأسلوب رمزيّ اعتمدت فيه الكاتبة على تقنيّة الاسترجاع، والراوي بضمير المتكلّم. ومن وجهة نظري يمكن اعتبار هذه المجموعة القصصيّة “قمر 14″، مجموعة من المذكّرات، واليوميّات التي عاشتها الكاتبة في ظلّ الحرب على غزّة بعد السابع من أكتوبر 2023، والتي من خلالها تصوّر في معظمها، حالات النزوح، ترك البيوت بكل ما فيها من ذكريات، العيش في مخيّمات النازحين، الموت، الجوع، العطش، الخوف، البكاء، الحسرة، الوحدة وغيرها. في حين حوت بعض القصص انتقادا لحالات اجتماعيّة لا تروق للكاتبة فتنتقدها بأسلوب لا يخلو من الرمزيّة والتكثيف في المعنى.
ورغم ما تحمل هذه المجموعة المؤثّرة جدّا من مشاعر الألم والفقدان، إلّا أن الأمل يلقي بظلاله عليها فتعبّر عنه في قصّتها بلدة (ص 47):” ألقيت القنابلُ على البلدة المنكوبة، فقتل الأطفال، ثمّ جاءها الغيث، فنبت في أرضها الأطفال”.
مبارك للكاتبة أصيل هذا الإصدار المؤثّر وإلى مزيد…