مقالات

رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – سلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة حول: (أدبِ الخلاف) الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد: * الخلاف في الفقه الإسلامي: رحمة أم مفسدة؟ (4)

من المقالات المهمة جدًا

يُعدّ الخلاف الفقهي من أبرز سمات التشريع الإسلامي، وقد أفرزته طبيعة النصوص الشرعية من جهة، وتفاوت المدارك والاجتهادات من جهة أخرى، لكنه ظلّ موضع تساؤل: هل يُعدّ رحمة تيسيرية وتعبيرًا عن مرونة الشريعة، أم أنه مظهر من مظاهر التفرّق والضعف؟

– الفقهاء يفرّقون بين الخلاف السائغ الذي يكون في المسائل الظنّية، وبين الخلاف غير السائغ الذي يصادم النصوص أو يُبنى على الجهل والهوى، فالأول مقبول داخل دائرة الاجتهاد، والثاني مردود لأنه خروج عن حدود الشريعة، قال الإمام ابن تيمية: “الاختلاف في الأحكام أكثره من جهة عدم العلم، وبعضه من جهة الهوى، فالأول يرفع بالعلم، والثاني يرفع بالعدل”.

– وقد نشأ الخلاف السائغ منذ عصر الصحابة رضوان الله عليهم، مع اختلافهم في بعض مسائل الفروع، كمسألة الجمع بين الصلاتين، أو حكم التيمم لمن وجد الماء وعجز عن استعماله، ومع ذلك، لم يكن اختلافهم سببًا في تنازع أو تبديع، بل ساد بينهم أدب الاختلاف، فكانوا يتعاملون معه بروح الأخوة والتقدير.

– وقد أُثِرت عن السلف مقولات تؤصل هذا الفهم، قال سفيان الثوري: “إذا رأيت الرجل يعمل بقولٍ قد اختلف فيه، فلا تنهه عنه”، وقال الإمام مالك حين سُئل عن الاختلاف بين العلماء: “كلٌّ على هدى، وكلٌّ يُراد به وجه الله”، وهذا ما جعل كثيرًا من العلماء يقولون بأن الخلاف الفقهي السائغ “رحمة”.

– وقد استدل البعض بحديث «اختلاف أمتي رحمة»، رغم عدم ثبوته من جهة السند، إلا أن معناه صحيح كما قرره الإمام السيوطي، وعضّده واقع الأمة عبر العصور، إذ وُجد في الخلاف الفقهي متّسع لحاجات الناس وتنوع بيئاتهم، كما قال عمر بن عبد العزيز: “ما أحب أنّ أصحاب محمد لم يختلفوا، لأنه لو كان قولًا واحدًا، لكان الناس في ضيق”.

– ومن مظاهر رحمة الخلاف السائغ: فسح المجال أمام تعدد الآراء لتيسير الفتوى على الناس، وتخفيف الحرج في النوازل، وتلبية متطلبات التغيّر الزماني والمكاني. ولذلك كانت قواعد مثل “المشقة تجلب التيسير”، و”العادة محكّمة”، تُفعَّل في سياق الخلاف لا لتعطيل النصوص، بل لتفعيل مقاصدها العليا.

– لكن مع اتساع هذا الباب، وقعت انحرافات: كالتحزّب للمذاهب، والتعصّب للأقوال، والتعامل مع المختلف معه وكأنه مبتدع أو ضال، وهذا ما أنكره العلماء، فقال الشاطبي: “الخلاف إذا لم ينضبط، أفضى إلى التفرّق، وهو مذموم شرعًا”. وقد أشار القرآن إلى خطر الخلاف المذموم في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ (آل عمران: 105).

– ومن هنا، كان على طلاب العلم والدعاة أن يميّزوا بين الخلاف الرحِم والاختلاف الفاسد، وأن يتحلّوا بأدب الإنصاف، وقد ضرب الإمام الشافعي مثالًا في ذلك حين قال: “ما ناظرت أحدًا إلا وتمنيت أن يُظهر الله الحق على لسانه”.

– إن الخلاف الفقهي السائغ يعكس سعة الشريعة، ويؤكد على مرونة النص الشرعي، ويُتيح تعدد الحلول في ضوء تغير الأحوال، لكنه يتحول إلى مفسدة إذا صاحبه سوء أدب، أو أُسيء استخدامه في الفتنة والتنازع، فالفيصل هو العلم، والعدل، والتجرد.

* الخاتمة:
الخلاف في الفقه الإسلامي ظاهرة طبيعية، بل ضرورة شرعية، متى ما التُزِم فيه بضوابط الاجتهاد وأصول الحوار، وهو رحمة حين يُدار بعلم وإنصاف، ومفسدة حين يتحول إلى بوابة للتعصب والتفرقة. وإن من أهم واجبات العلماء اليوم: ترشيد الخلاف، وتعزيز أدبه، حتى يبقى عامل وحدة، لا وسيلة فرقة، ورافد بناء، لا أداة هدم.

• عنوان مقالة الغد بمشيئة الله تعالى: “كيف نختلف دون أن نفترق؟”
• اللهم احقن دماء المسلمين واجعلهم أذلة على أنفسهم أعزة على الكافرين.
* مقالة رقم: (1922)
* 07. شوال . 1446 هـ
* السبت. 05.04.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق