مقالات
رؤية هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – السلسلة مكوّنة من إثنتي عشرة مقالة “الأزمات النفسية في العصر الحديث” (9)
أزمة الهوية وتأثيرها على الاستقرار النفسي
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
كنت قد تطرقت في سابقِ مقالاتي إلى أزمة الهوية وأفردتُ لها سلسلة من المقالات، ولكن هذه المقالة جاءت تحت سلسلة: (الأزمات النفسية في العصر الحديث)
فالهوية ليست مجرد بطاقة تعريف أو انتماء اجتماعي، بل هي البوصلة التي تحدد مسار الإنسان في الحياة، وتمنحه الاستقرار النفسي والفكري، وعندما تضطرب هذه الهوية أو تصبح غامضة، يجد الفرد نفسه في صراع داخلي قد يقوده إلى القلق والاكتئاب، أو حتى الانعزال عن المجتمع.
* الهوية في الرؤية الإسلامية
الهوية في الإسلام تقوم على أسسٍ راسخة تجمع بين العقيدة، القيم، والأخلاق، وقد أكد القرآن الكريم على ضرورة معرفة الإنسان لنفسه، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾ (الحشر: 19)، مما يدل على أن البعد عن الله يؤدي إلى اضطراب الهوية وفقدان الذات.
– كما يرسّخ الإسلام مفهوم الانتماء إلى أمة واحدة، فقال تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذِهِۦۤ أُمَّتُكُمْ أُمَّةࣰ وَٰحِدَةࣰ وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَٱعۡبُدُونِ﴾ (الأنبياء: 92). فالانتماء للأمة يمنح الإنسان شعورًا بالاستقرار النفسي، ويحصنه من الضياع في هويات متناقضة.
* أزمة الهوية: الأسباب والجذور
تحدث أزمة الهوية عندما يفقد الإنسان بوصلته بين انتماءاته المختلفة، ومن أبرز أسبابها:
1- التأثيرات الثقافية المتضاربة:
حيث يتعرض الفرد لموجات فكرية متناقضة بين الأصالة والحداثة؛ -كنت قد تعرّضتُ إلى هذه المصطلحات وأفردت لها مقالات فيما سبق-
2- ضعف الوعي الديني:
مما يجعله عرضة للتشكيك والاضطراب على الدوام.
3- التغيرات الاجتماعية والسياسية:
كالهجرات القسرية التي تنتج عن الصراعات والحروب أو الاستعمار الفكري الذي يسعى إلى تفكيك الهوية الأصلية.
4- العولمة والتقليد الأعمى:
حيث يؤدي الاندماج غير الواعي في ثقافات مختلفة إلى فقدان التوازن بين الانفتاح والتمسك بالجذور.
* أثر أزمة الهوية على الاستقرار النفسي
أزمة الهوية ليست مجرد مشكلة فكرية، بل هي معضلة نفسية تهدد استقرار الإنسان، ومن آثارها النفسية:
1- التشوش الذهني:
حيث يصبح الشخص غير قادر على تحديد موقفه من كثير من القضايا الحياتية.
2- فقدان الثقة بالنفس:
مما يجعله مترددًا وغير قادر على التفاعل بثقة مع المجتمع.
3- الشعور بالغربة والانعزال:
نتيجة فقدان الجذور الثقافية والدينية.
4- السلوكيات المتطرفة:
سواء بالانغلاق التام أو الذوبان الكامل في الآخر.
* كيف نواجه أزمة الهوية؟
الإسلام يقدّم حلولًا متوازنة لهذه الأزمة، ومن أبرزها:
1- العودة إلى المرجعيات الأصيلة:
ككتاب الله وسنة رسوله، حيث يقول تعالى: ﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ (التغابن: 11)، مما يدل على أن الإيمان يمنح الإنسان استقرارًا نفسيًا عميقًا.
2- تعميق الفهم الذاتي:
عبر التأمل في القيم والمعتقدات الشخصية وليس فقط تبنّي ما يُفرض من الخارج.
3- الانفتاح الواعي: حيث لا يعني التمسك بالهوية الانغلاق، بل التفاعل مع العالم بوعي وثقة دون فقدان الذات والهوية.
4- التربية المتوازنة:
إذ يجب أن يُغرس في الأبناء منذ الصغر فهم هويتهم بطريقة صحيحة ومتزنة.
* وأخيرًا
الهوية المتزنة تمنح الإنسان استقرارًا نفسيًا، بينما الهوية المضطربة قد تجعله في حالة قلق دائم، في ظل التغيّرات المتسارعة، يجب على الإنسان أن يتعامل مع هويته بوعي، لا بإقصاء للآخر ولا بذوبان فيه، بل بخلق معادلة تحقق له التوازن بين الجذور والآفاق، فكلما تعمق الإنسان في معرفة ذاته، ازداد استقراره النفسي، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ﴾ (فصلت: 53).
* عنوان مقالتنا القادم بمشيئة الله تعالى: كيف نربي أبناءنا على التوازن النفسي؟
* طاب صباحكم، ونهاركم، وجميع أوقاتكم، ونسأله تعالى أن يحفظ مجتمعنا، وأن يُبرِم لهذه الأمة إبرام رشد.
* مقالة رقم: (1863)
06. شعبان . 1446هـ
الأربعاء .05.02.2025 م
باحترام:
د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)