الشاعر العربى الكبير أبو نواس ملأ الدنيا شرقاً وغرباً بصولاته وجولاته فقد كتب المؤلفون عنه الكثير وعن شعره الذى قد عبر به كل الخطوط الحمراء ، فقد كان دائماً يكتب شعراً خارج النص لا تحكمه معايير أخلاقية أو تقاليد أو قيود دينيه.فقد خلع منذ الوهلة الأولى عباءة التقاليد والقيم الدينية والأخلاقية ، لذلك اشتهر بالاباحية والجنس فى أشعاره فقد اقترن اسم أبى نواس بالاباحية والخمريات لذلك كان الخمر والجنس مفاتيح لشعره فلا نرى أو نسمع قصيدة بتوقيع أبي نواس إلا أن نجد فيها الخمر والنهود والفخوذ والخروج على النص والكتابة عن الجسد والسكر ؛ لذلك لـه ديـوان شعر كامل يسمى بالخمريات ، نلمح بين سطورها النبيذ يجري متدفقاً بين تفاعيل القصيدة وبحورها ؛ لذلك كثر الكلام عن أبي نواس وعن شعره حتى عرفه الصغير والكبير القاصي والداني ، المثقف والأمي ، الغني والفقير ، العرب والمستشرقون والمستغربون .فقد حجز لنفسه مكاناً كبيراً بين شعراء العربية فقد كان يمتلك جناحاً كبيراً فى فندق الشعر العربي.فإن الشعر العربي عبارة عن قصر كبير قد جاء أبو نواس وبنى فيه لبنات كثيرة ، فكان مثل المهندس الحاذق الماهر الذى وضع لمساته الجميلة على قصر عظيم من الشعر ؛ قد شارك فى بناءه شعراء كثيرون كان من أبرزهم الشاعر العربى الكبير أبو نواس.الاسم الذي اشتهر به هو أبو نواس لكن اسمه الحقيقى هو الحسن بن هانئ الحكمي ، ويسمى باسم البصري ايضاً ، فقد ولد سنة 140 هـ وتوفى سنة 199هـ أى أنه عاش تسعة وخمسين عاما ، فقد ولد فى بغداد وكان أبوه يعمل جنديا فى جيوش الدولة الأموية أيام مروان بن محمد آخر خلفاء بنى أمية ، فقد تزوج أبوه من امرأة من أصل فارسى انجبت له أبا نواس.تعلم أبو نواس على يد المربي (أبي يزيد) ثم توجه أبو نواس إلى بغداد لكي يمدح الرشيد لكنه لم يجد قبولاً حسناً فى قصر الخلافة ، فذهب للحج ثم هاجر إلى مصر
، ولكن أبا نواس هرب إلى مصر لأن هارون الرشيد قد حكم عليه بالسجن وبعد موت الرشيد تولى الحكم ابنه الأمين الذى ارسل إلى أبى نواس وقربه منه فكان الأمين أكثر عطفاً من أبيه ، فقد صار أبو نواس نديم الأمين لكن الأمين حرم الخمر على أبي نواس وسجنه بسببها مرة.لقد رفع أبو نواس لواء التمرد والعصيان ضد كل التقاليد العربية ، لقد رفض روح القبيلة ورفض كل تعاليم شيوخ القبيلة.لقد كانت الخمر هى مدخل أبي نواس إلى القصيدة فكان يفتح شهيته بسطل من الخمرة السوداء لكى يركب القصيدة ويمسك بزمام تفعيلاتها ، فكانت القصيدة نسمعها نحس أنها قطعة من الألماظ أو الماس موزونة بميزان حساس.لم تكن الخمر لدى أبي نواس مجرد شراب سكر يضيع العقل منه فيصبح بلا وعي يمشي يتخبط فى جدارن البيوت بل كانت الخمر بالنسبة له بوابة كبير يعبرها للدخول إلى عالم الحرية فى الفكر فيسرى بعد عبور هذه البوابة جنات تجري من تحتها الأنهار يرى عالم كبير تختلط فيه الألوان ببعضها الأخضر مع الأحمر مع الأزرق مع الأصفر فى سيمفونية رائعة تمتزج فيها أقواس قزح بغناء الكناريا والعصافير فيرى الطبيعة وهى تمسك العصا الموسيقية وهى تعزف أجمل الألحان ، فقد كانت الخمر تسمح له بالهروب من قيود المكان وسجن الزمان وتسمح له أن يرى هالات من النور الربانى ترقص فيه الملائكة على نغمات الحرية ، لذلك لا غريب ولا شاذ أن نراه فى اللاوعي ينتهك القيم والمبادئ والأخلاق.لقد قدم أبو نواس للشعر العربى خدمة ثقافية كبيرة فقد نقل لنا الثقافة الفارسية بكل كبيرة وصغيرة. هذه الثقافة الفارسية بكل تقاليدها الدنيوية التى محاها الإسلام وحث على التخلص منها وخاصة النقوش والرسوم الموجودة على ديوان سرى وحفلات الزار والسكر والخمر فى الحدائق الغناء الكبيرة مع الجواري والهروب إلى اللذة ، فكل هذا كان وسيلة ناجحة لتحرير الحواس والدخول منها إلى الأبدية والعبور منها لبوابة التحرر من القيود والسلاسل التى كانت تدعو لها التقاليد والقيم ، لذلك لا غرابة أن ترى أبا نواس وهو يضرب عرض الحائط بكل هذا من أجل الشعور بلحظات من المتعة واللذة وبعدها لا يهمه هل هو فى الجنة أم النار فهو يحتسىكؤوسا مملوءة باللذة والجمال ويسبح فى دنيا من اللاقيود واللذة ، فهو لا يعرف المحظور ولا الممنوع وليس عنده حرام أو حلال بل تراه يحلل الحرام ، فهو يقيم فردوساً خاص به لا تحكمه الشرائع، بل الكلمة العليا فيها لمبدأ اللذة وأنهار الخمر والنهود البيضاء والسوداء والشفاة الهمجية الظامئة للقبلات الحارة.لقد كان الذنب يحاصر أبا نواس من شماله وشرقه ونوبه وغربه ، فكان دائما مطارداً من الذنوب ، يراها فى كل الزوايا ، يشعر أنه يسبح فى بحار من ذنوب بسبب ما تركه لنا من أشعار فاضحة تحث على الرذيلة لذلك فى نهاية حياته استيقظ ضميره وحاول إحراق أشعاره العارية ولكن هذا لم يغير فى الأمر شيئا لأن أشعاره فى هذا الوقت قد انتشرت وشاعت مثل النار فى الهشيم ، فقد رواها الرواة وأصبحت على كل لسان وعبرت كل الحدود وكل البلاد وكل الولايات المجاورة فحفظها الكبير والصغير القاصي والداني
حاول الشاعر محو ماضيه والتنكر له ، فقد مات أبو نواس فى بيت أحد أصدقائه بعد حرق القصائد بخمسة أيام ، وهذا يدل على أن أبا نواس بدأ يعاني من وخذ الضمير وحاول التكفير عن شئ قد اقترفه ، فقد كان يشعر بقرب الأجل فقد يشعر أن الله سوف يجعله وقوداً لجهنم وأن شبح الموت يطارده فى كل وقت لذلك شرع فى حرق قصائده التي امتلأت بالإيحاءات الجنسية والذنوب.إذا تطلعنا ديوان أبي نواس نرى أن الناشرين حذفوا الكثير من القصائد التى تحث على المعاصي والأفعال اللاأخلاقية لكن هذه القصائد المحرمة لأبي نواس تشكل جزءاً كبيراً من شعره ، وقد بلغ عدد هذه القصائد المحرمة حوالى ثلاث مائة مقطوعة تعرضت للحذف والطمس والتشويه ، وإن وجدت هذه القصائد تراها مشوهة مملوءة بالحذف والأخطاء الاملائية والنحوية دليلاً على أنها من وباءها وجحيمها.على العموم فإن هذه القصائد المحذوفة تشكل فى صلبها العمود الفقرى لديوان أبي نوس إذا حذفت هذه النصوص فهذه النصوص لا توضح إلا مدى سخط الشاعر على مجتمعه المملوء بالقيود التى تمنع اللذة والحس الدنيوي لدى الشاعر لذلك نراه خلع عن جسده عباءة المنطق والتقاليد ووقف عارياً منها فى مهب الريح يمارس حياته بلا قيد أو قيم حتى جاءت قصائده لنا عارية من المبادئ والقيم ترتدي عباءة الخمر والجنس والتعدي على المقدسات وانزال اللعنات على المجتمع الذي عاش فيه الشاعر.والآن تعالوا أيها القراء الأعزاء ندخل سوياً فى حدائق أبي نواس لنراه فى حانات بغداد ومصر ، لذلك لا غرابة لو تساقطت قطرات الخمر عليك أيها القارئ من بين سطور القصيدة ، فالقصيدة مغمسة من أول حرف إلى آخر حرف فى الخمر ونرى فواصلها ونقاطها سابحة فى خمرة معتقة قد نهل منها أبو نواس طوال عمره حتى غاب عن الوعي وأصبح يعيش أسيراً للخمر ولو فكر فى الإقلاع عنها لطار عقله فى الهواء وصار بلا معنى ولا وجود فقد ارتبط الشاعر بالخمر ارتباطاً كلياً وجزئيا وصار أبو نواس والخمر وجهين لعملة واحدة فلا تذكر كلمة خمر إلا وقرأنا بعدها اسم أبي نواس.فكل هذه النصوص المحرمة التالية كتبت بأقلام ليس بها حبر بل بها خمر معتق ، لذلك نال الشاعر شهرة عالمية وترجمت أعماله وكثرت عنه الدراسات فى كليات اللغة العربية والآداب حتى صار مثل النار على العلم وأصبح نجمه متألقاً فى سماء الشعر والأدب والثقافة ، فهو درة من درر اللغة العربية والشعر العربي.
——–
بقلم شاعر الأمة محمد ثابت
مؤسس شعبة شعر الفصحى باتحاد كتاب مصر