مقالات

وداعا اسطنبول .. عبير النحاس

بدأت مشاعري بالتقلب منذ اليوم الأول لتحرير سوريا، كانت تتأرجح بين فرحة عظيمة وسعادة ودهشة بالنصر المفاجئ والعظيم وبين مشاعر الحزن والألم لأن فراق إسطنبول العزيزة قد اقترب دون شك.
بعد أسبوعين اتخذنا قرار حاسما بالعودة إلى الوطن، وغرقت في بحر من الدموع وفوضى الأثاث والأشياء والذكريات التي سأحملها معي.
تشبه علاقتي باسطنبول ذلك الحب الذي يأتيك فجأة بعد منتصف العمر وقد ظننت ان قلبك جفت مشاعره وتخلى عنك حبك الأول بل وجفاك وجرحك وانحاز لأعدائك.
تشعر أنك وحيد ومنبوذ في هذا العالم.
فإذا بحسناء رائعة الجمال كريمة الأصل تدخل حياتك فتشعل بجمالها وجلالها ووجودها قلبك وتحنو عليك وتسقيك من المتع والسحر ما لم تكن تعلم بوجوده.
تطير بها ومعها وتسكر من فرط ما تراه من بهاء وحب وحسن.
فإذا بحبك الاول وقد استفاقت من كبوتها، عرفت قيمتك، وطردت من آذوك، وبدأت تناديك وقد أتعبها البعاد والألم.
فلا انت بقادر على ان تترك الحب الذي احتواك وأشعل فتيل قلبك وشفى جرحك.
ولا انت بقادر على ان تتخلى عن وفائك لحبك الأول.
سنوات رائعات مثمرات من التفكر والعمل وتحقيق الأحلام وتربية الأولاد قضيتها أجمل مدينة.
وصلتها امرأة ضئيلة الحجم والخبرات. خائفة. متفائلة. تجهل معادن البشر. وتحمل مسؤوليات عظيمة. برفقتها ثلاثة مراهقين. وستة كتب منشورة. ومقالات في مواقع وصحف عربية. وأحزان لم تفلح في تغييبها ونسيانها.
وأودعها اليوم بعيون لا يكاد دمعها يتوقف بـ 35 كتابا ومقالات كثيرة في مواقع وصحف تركية قديرة. وبوعي وحكمة وخبرات لا تحصى ودون مسؤوليات تذكر.
كبر الأولاد وباتوا هم السند وانتهت المسؤوليات وبدأ عهد جديد ومرحلة جديدة وحياة جديدة لا هم فيها سوى الكتابة وأن أعتني بنفسي.
أودع إسطنبول اليوم وقد حملت معي منها:
23 كتابا نشرتها في إسطنبول وحدها وكتبا أخرى نشرتها في بلدان أخرى عربية وأرسلوها إلي هنا.
أعدادا كثيرة من مجلة “الحياة الحقيقية” احتفظت بها دوما لترافقني طوال عمري كأجمل ذكرى عشتها.
هدايا وتذكارات وذكريات من أصدقاء أتراك وعرب ومسلمين من دول غير عربية (ألبانيا وكازاخستان ومصر ولبنان واليمن والكويت ودول أخرى).
كتب أهداني إياها كتاب سوريون وعرب التقيت بهم في إسطنبول في أجمل وأكبر تجمع لكتاب عرب من دول مختلفة ومدن مختلفة ومن المستحيل أن نعود لمثل هذا الاجتماع الطويل والعجيب بعد أن يعود كل منا لبلده وموطنه.
صور وذكريات لأصدقاء تعرفت إليهم وكانوا بديلا جميلا عن عائلتي وإن كان مؤقتا.
والكثير من صور أخذتها لإسطنبول الرائعة التي لن تمحوها السنوات أبدا من مخيلتي.
والأهم طعم الحرية والأمان الذي تذوقته أولا بعد خروجنا من سوريا التي كانت بيد الأسد المجرم.
حملت معي أيضا بعض ذكريات لأحداث مؤلمة أججها عنصريون لأسباب ومصالح سياسية لا علاقة لنا بها، لم تغير من أقدارنا شيئا لكنها جعلتنا ندرك قيمة من وقفوا معنا دائما ولا ننسى ما فعلوه.
لقد كانت تجربة ثرية جدا، عميقة جدا، لن أعود بعدها كما كنت من قبل، بل سأعود امرأة قوية واثقة تحب هذه المدينة وتدعوا الله أن يحفظها دوما.
شكرا إسطنبول الجميلة لكل ما منحتني. سأكتب عنك طويلا جدا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق