نشاطات

لغتنا الجميلة في علم البيان و البديع : البحث الثاني/خالد خبازة

لغتنا الجميلة
في علم البيان و البديع :
البحث الثاني
كنا تحدثنا في البحث الأول في موضوع الاستعارة .. وماهيتها .. و أن على الشاعر أن يكون ملما بقواعدها
و تحدثنا كيف كان أجدادنا من الشعراء ,, يميزون بين الشعر الحقيقي و بين النظم الذي لم يكونوا يعتبرونه شعرا .. و ذكرنا كيف كان رد عبدالملك بن مروان على الراعي النميري عندما جاءه مادحا فأجابه : هذا ليس شعرا .. و انما شرح اسلام و تفسير آية . ورأينا كيف استهزأ مروان بن أبي الجنوب بشعر علي بن الجهم ..
و تأكيدا لهذا المبدأ أي تمييز العرب الأوائل بين الشعر و النظم نقول :
سأل الوليد بن عبدالملك جلساءه أن ينشدوه أوصف شعر قالته العرب . قال احدهم ، هو قول امرئ القيس :
و تعرف فيه من أبيه شمائلا … و من خالد و من يزيد و من حجر
سماحة ذا و برّ ذا ووفـاء ذا … و نائـــل ذا ، اذا صحا و اذا سكر
فقال أحمد بن عيينة :
” ظن العرب مثل هذين البيتين كأنهما حديث و ليس بشعر ” .
و لعل عبارة ابن عيينة تشير الى وضوح الصورة في ذهنه ، أي الفارق بين اللغة الشعرية و اللغة النثرية العادية .
اضافة الى ذلك فان ” دعبل بن علي الخزاعي ” أقام حدا بين اللغة الشعرية و الخطابة في التفاتة لا تخلو من الاعتداد باللغة الشعرية . يقول منتقدا شعر أبي تمام :
” ان أبا تمام لم يكن شاعرا .. انما كان خطيبا ، و شعره بالكلام اشبه منه بالشعر ” .
فبالرغم من أن مكانة أبي تمام الشعرية لا مجال للنقاش فيها .. الا أن دعبلا أراد أن ينال من شاعرية أبي تمام مشبها شعره بالخطابة .
و كان الفرزدق قد اتهم الكميت حين عرض هذا الأخير عليه شعره بقوله :
” أنت خطيب ” . و قد رأى الشريف الرضي أن الفرزدق ، انما سلم له الخطابة ، ليخرجه عن أسلوب الشعر .
لقد وصل الخلاف بين اللغويين و النحاة الى الذروة ، حين انتقل السجال الى الضرورة الشعرية ، وهي التي تقبل من الشاعر خرق القواعد النحوية لدوافع فنية .. و ان ما يقوله الشعراء هو شأن ابداعي لا يجوز للنحاة تخطئته ، و انما عليهم أن يلتمسوا له وجوها من التأويل ، و هذا ما قال به الخليل بن أحمد الفراهيدي :
” الشعراء أمراء الكلام ، يصرفون أنى شاؤوا ، و جائز لهم ما لا يجوز لغيرهم ، من اطلاق المعنى و تقييده ، و من تصريف اللفظ و تعقيده ، و من مد مقصوره ، و قصر ممدوده ، و يحتج بهم ولا يحتج عليهم ” . ..
و اذا كان العرب قد فرقوا بين الشعر و النظم .. لذا كان على الشاعر أن يكون مطلعا على أسرار الصناعة الشعرية .. و قواعد البيان و البديع ملما بها .. ليكون نظمه شعرا حقيقيا و ليس نظما قريبا من النثر ..
و بعد أن تحدثنا عن ” الاستعارة ” في البحث الأول .. نتحدث في هذا البحث عن ” الكناية ”
الكناية :
هي أن يأتي الشاعر بعبارات أو بألفاظ تحمل معان معينة .. و لكن يستشف منها معنى آخر قصده الشاعر
وكذلك ، أن يذكر المتكلم شيئا ، و هو يريد شيئا آخر ، كقولك : فلان نقي الثوب ، أي لا عيب فيه ،
و طاهر الجيب ، أي ليس بغادر ،
و دنس الثوب ، أي فاجر ،
و مغلول اليدين ، أي بخيل ،
و منها قول الرسول ( ص ) :
” اياكم و خضراء الدمن ” و هي المرأة الحسناء في منابت السوء .
.. الخ .. و الأمثلة كثيرة .
و قد ميز أسامة بن منقذ في كتابه ” البديع في البديع في نقد الشعر ” بين الكناية و الاشارة ، بالرغم من تقاربهما كثيرا ، و أنهما من بنية واحدة . يقول :
اعلم أن الفرق بين الكناية و الاشارة ، أن الاشارة الى كل شيء حسن ، و الكناية ، الى كل شيء سيء .
كقوله تعالى : ” فيهن قاصرات الطرف ” اشارة الى عفافهن . و كقوله تعالى : ” فرش مرفوعة ” اشارة الى نساء كرام . وكقوله : ” أرضا لم تطؤها ” اشارة الى سبي النساء .
و قوله تعالى : ” كانا يأكلان الطعام ” كناية عن قضاء الحاجة ..
و أنني لست أرى فارقا بين الاشارة و الكناية .
و من الأمثلة عن الكناية
قول العرب : طويل نجاد السيف . كناية الى ارتفاعه عن الدنايا .
و كقولهم : فلان عظيم الرماد ، او ناره لا تطفأ ، هي كناية الى كثرة القرى و الكرم .
و أروي هنا قصة طريفة حول الكناية :
و قفت امرأة على قيس بن سعد بن عبادة ، فقالت :
أشكو اليك قلة الجرذان . قال :
ما أحسن هذه الكناية ! .. املؤوا بيتها خبزا و لحما و سمنا و تمرا .
فهي لم ترد أن يكون بيتها مليئا بالجرذان .. و انما هي أشارت كناية الى خلو بيتها من المؤونة .
و رأى أحدهم رجلا سمينا .. فقال له :
أرى عليك قطيفة من نسج أسنانك
و لذا ، انني أرى أنه لا حاجة بنا الى التمييز بين الاشارة و بين الكناية ، كما يراها أسامة بن منقذ في كتابه البديع في البديع.. فالاشارة ما هي الا كناية ، سواء أكانت اشارة الى شيء حسن ، أم كانت كناية الى شيء سيء . فجميعها تدخل فيما يسمى في علم البديع ” الكناية ” .
و ان أسبق الناس الى الكناية ، و الى هذا المعنى ، امرؤ القيس ، في قوله :
و يضحي فتيت المسك فوق فراشها … نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
يعني بقوله نؤوم الضحى ، أنها مخدومة من بنات الملوك .
و يقول عمر بن أبي ربيعة :
بعيدة مهوى القرط ، اما لنوفل … أبوها ، و اما عبد شمس و هاشم
و يقصد بقوله بعيدة مهوى القرط .. مشيرا الى طول عنقها و هو كناية جميلة .
و يقول عنترة :
بطل كأن ثيابه في سرحة … يحذى نعال السبت ، ليس بتوأم
السرحة : مفرد سَرْح ، و هو الشجر الكبير و الطويل ، يستظل تحته .
و قد أشار عنترة الى أن ثيابه في سرحة .. كناية عن طول قامته ، و قصد بقوله : يحذى نعال السبت ، الى أنه ملك ، و بقوله : ليس بتوأم ، الى أنه قوي شديد .
و قد أعجبني في موضوع الكناية ما كتبه عمرو بن مسعدة الى المأمون :
” أما بعد .. فقد استشفع بي فلان ، في الحاقه بنظرائه ، فأعلمته أن أمير المؤمنين ، لم يجعلني في مراتب الشافعين ، و لو فعلت ذلك ، لتعديت طاعته .. و السلام .. ”
فوقع المأمون في كتابه :
” قد عرفنا تصريحك له … و تعريضك لنفسك .. فأجبناك اليهما ، ووقفناك عليهما ..”
و من الكنايت الجميلة أيضا قول المتنبي في رثاء أخت سيف الدولة :
و ان تكن تغلب الغلباء عنصرها … فان في الخمر معنى ليس في العنب
و انني لم أر في شرح موضوع الكناية هنا ، أحسن مما جاء في أطروحة الصديق المحامي الدكتور أحمد مبارك الخطيب ” الانزياح الفني في شعر المتنبي ” التي نال بها شهادة الدكتوراه في الادب ، حيث يقول في تحليل البيت المذكور ما يلي :
” يقول أبو محسّد ” المتنبي ” :
وان تكن تغلب الغلباء عنصرها … فان في الخمر معنى ليس في العنب
فالمرثية .. أخت سيف الدولة تنتسب الى قبيلة ” تغلب ” العزيزة المنيعة ” الغلباء ” فهناك القبيلة ، و بنت القبيلة .. و اذا كانت القبيلة ذات شأن فان لابنة تغلب ( اخت سيف الدولة ) المزايا و الصفات ما يفوق قبيلتها .. و هو ما يفهم من الشطر الثاني من البيت .. فالعنب بالرغم من جودته ، فانه يتحول الى مادة أكثر جودة ، و هي الخمر .. و ان الشاعر يريد أن يقول : ان المرثية تحمل من الصفات و المزايا ما يفوق أصلها ، بالرغم من أنه أصل كريم ، فلجأ المتنبي الى التعبير الكنائي و انزاح عن التعبير الأصلي ، ليؤدي هذه الصورة الشعرية المبتكرة ، وهي دليل على أن طرفي الشطر الأول ، القبيلة و ابنة القبيلة ، ينهضان معا في موازاة الشطر الثاني ، العنب و الخمرة .. اذا بذلك التقابل بين المعنيين ، نستطيع أن نجد للفكرة معادلها اللغوي ، و بها تتحول عاطفة المتنبي الثرية نحو الموضوع الى مادة لغوية أكثر ثراء .. ”
……
خالد خبازة

مقالات ذات صلة

إغلاق