مقالات
أحمد رفيق عوض في”الحياة كما ينبغي” يخرجنا من الأزمة،ويأتي بالبطل الجديد.. بقلم: المتوكل طه
رواية أحمد رفيق عوض “الحياة كما ينبغي” الصادرة عن دار الأهلية في عمّان هذا العام، تعيد الأمور إلى مربّعاتها الأولى، البيضاء والسوداء، وتُجلي الصورةَ الضبابية، وتنهي حالة انشغالات النص الروائي الفلسطيني عن قضاياه الأكثر حميمية والتصاقاً بالواقع. فالرواية التي بين أيدينا من النوع السهل الممتنع، القريبة وفي متناول اليد،ولكنها في الوقت ذاته أصيلة وقطعة فنية ذات خصوصية عالية. أحمد رفيق عوض بهذه الرواية ،التي تعيد موضوع المقاومة إلى الواجهة وإلى مقدمة الوعي ،باعتبارها الضريبة المُستحقّة الدائمة ،ما دام هناك احتلال يتوحّش أكثر فأكثر، فإنه عملياً يغادر ثلاثين سنة من نصوص روائية حاولت أن تستبدل الأمور أو تعيد ترتيبها، إذ أن الرواية الفلسطينية ومنذ أوائل التسعينيات وحتى يومنا هذا، طرقت مجالات الأسئلة والجدل والشك والالتباس، فيما غامرت بعض هذه الروايات فلامست المبتذل والمُحرّم والهامشي والمسكوت عنه،حرجاً أو خوفاً أو كليهما. ثلاثون سنة تقريباً من عدم الوضوح السياسي والاجتماعي والأمني، وثلاثون سنة تقريباً من التجارب والمبادرات والفعاليات المختلفة لاختراق الوعي أو تغييره أو تكييفه أو كل ذلك. وهذا ليس اتهاماً أوعتاباً ،ولا لوماً أو انقاصاً أو انتقاصاً من التجربة الروائية الفلسطينية، بل هو توصيف لسياق الرواية العام،التي تتأثر بالهبوط والارتفاع تبعاً للحالة العامة الفلسطينية.
رواية المبدع أحمد “الحياة كما ينبغي” تتحدّث عن شاب فلسطيني في فضاء محافظة جنين، نفّذ عملية فدائية ثم اختفى بالضرورة، هذا”البطل” الجديد شاب عادي جداً، لا يميّزه شيء سوى إحساسه بقوة الضريبة المُستحقّة للمكان والحياة.الشاب ليس ممشوقاً ولا وسيماً ولا غنياً ولا عاشقاً، وكأنّ الكاتب أراد أن يكون هذا الشاب من الوجوه العادية التي نراها كل يوم، أراد الكاتب من هذا الشاب أن لا يكون سوى الفلسطيني الذي يدرك ثقل المسؤولية وعظم القدر الذي يحمله على أكتافه.. كما أراد الكاتب لهذا الشاب أن لا يكون مؤطّراً أو مؤدلَجاً أو مُموَّلاً أو مغسول الدماغ، كأنه الفلسطيني الذي يندفع إلى الفعل الطبيعي في المكان الطبيعي والزمان الطبيعي، ولهذا، كان هو الأمل الجديد أو بطل المرحلة الجديدة لحياة تليق أو كما ينبغي أن تُعاش. وتلاحق الروايةُ هذا الشاب في رحلة تخفّيه بين أشجار وطنه، وتتابع في الوقت نفسه مطاردة قوات الاحتلال لهذا الشاب،لقتله أو اعتقاله، وما بين المسارين، مسار الاختباء الذي يشبه العودة إلى حضن التراب،ومسار المطاردة الذي يتحوّل إلى مصيدة لمن يقوم بالمطاردة، يتم اكتشاف الحلول كلّها، أو على الأقل هذا ما تدّعيه الرواية، التي تدور بسرعة كبيرة، مخلّفة وراءها ومعها قدرة فذّة على التشويق والجذب والشدّ،عبر سردٍ ماتع شاعري مدهش وغير متوقّع، يضجّ بالمشاهد والصور والألوان والروائح والطعوم والنضارة،وهو مقطعٌ تاريخي طازج وشديد الواقعية، سيكون ،يوماً ما، وثيقة مشعّة وصادقة تتحدث عن مجموعة(جنين المسلّحة) وأحداث وتاريخ رجراج.والرواية التي تدور أحداثها في وقت ضيق حذر، وفي مكان ضيق ملغوم ، تستعين بكثير من الإشارات والإحالات التي تجعل من الرواية كلها أشبه بفيلم قصير مبهر، من أفلام الإثارة الحركية والبولسية.. والرواية التي بين أيدينا تقدم حلولاً أو مخارج للأزمة التي نعيشها على المستويات المختلفة، الخروج من حالة الشلل الجماهيري وإخراج الثقل العام من المواجهة من قِبل الفصائل، والخروج من حالة التشرذم السياسي الذي يهدد فعلا القضية مباشرة ويدفع بها إلى مهاوي المصالح الجارحة، والخروج من حالة الفلسطيني الذي فقد مميزاته وهالاته.. ولا أقول إن الرواية جاءت بكل هذا من الفراغ، بل إنه الواقع المتواصل بنتوءاته في فلسطين، حيث لا يمكن للفراغ أن يكون هو صاحب السلطة،ولا يمكن للخلاف الداخلي المشبوه أن يكون هو العنوان، ولا يمكن للفلسطيني أن يصبح فلسطينياً جديداً بمعنى الضحية السلبية أي الاستسلام. الرواية تقول عكس ذلك تماماً، تقول الرواية بوضوح إن الخروج من الأزمة يتمثل في العودة إلى التعريفات الأولى والتسميات الأولى، والعودة إلى الحقول الباذخة، تحت الأشجار، وإلى قراءة ما تقوله الصخور وما تفصح عنه أرواح الجبال. هذه المرة، يكتب أحمد رفيق عوض، رواية عميقة ببساطتها، خطية الى حدٍ كبير، فيها مباشرة وصوت عالٍ، وفيها تدخل، ولم يثرثر ولم يستعرض، على ثقافته الموسوعية، بقدر ما تغيّا الحساسية والرهافة، لهذا جاءت الرواية ذات حجم صغير. ولكني أعتقد أن الكاتب أراد تقديم رواية أخرى هذه المرة، ورواية تشبه كلامنا وأخطاءنا وارتباكنا وأحلامنا، دون أن ينزلق إلى العاديّ والمبذول ،فكتبها بلغة جارفة وشاعرية وسريعة الإيقاع، جاءت الرواية هذه المرة، وفي انعطافة مختلفة عن سير روايات الكاتب وأجوائها، رواية تتناول ما يجري في الشارع الفلسطيني من تغيّرات، وما يجري في الوعي الجمعي من أسئلة، وما يمر على الخاطر من هموم يومية، هذه رواية انكشاف الظهر والبطن، من جهة، ولكنها رواية اجتراح الحلول من جهة أخرى.. هذه رواية للفلسطيني الذي انهارت أحلامه وتمت محاصرته وتجريده من كثير من الأوهام التي أُجبر على حملها، ولكنه يفاجئ الجميع! فهي رواية الرسائل أيضاً، فهذه رواية تحمل رسائل عديدة، صيغت بذكاء ومعرفة وفهم وحساسية شديدة، فقد جهد الكاتب في أن يصوغ رسائله السياسية بعيداً عن الجُمل المعلّبة والجاهزة أو تلك المنبرية العالية، بمعنى أن واحدة من ميزات أحمد رفيق عوض أنه يستطيع أن يذوّب الأفكار المتجهّمة والمواقف السياسية والنظريات، ويدفعها إلى النص لتتماهى معه ، دون أن تفقد معانيها، فهو الحرّيف الذي يبقيها تتراءى واضحة خلف السطور، فنراه قد حوّل هذه الأفكار إلى أشخاص وأحداث وأدار بينها صراعاً أو حواراً ،دفعنا دفعاً إلى أن نقتنع أو على الأقل نعيد التفكير فيما نحن عليه. وكما ذكرت آنفاً، فهي رواية الرسائل ولكنها رواية الرموز أيضاً، فكل شيء في الرواية يحمل رمزاً، أسماء الأشخاص وأسماء الأماكن وأسماء الأشجار وزمن حدوث الفعل الروائي أيضاً، فالأحداث كلها في آذار، وهو شهر الخصب والعطاء في ثقافات شعوب هذه المنطقة على الاطلاق.
لقد سعدت بهذه الرواية، لمضمونها وللغتها ولاقتراحاتها ولما تبشّر به ولما تفتح به من طريق. سعدت بها لأنها من الروايات التي لم تتراجع عن فضح جوّانية الجلاد المنقسم على ذاته، الفاقد لهويته، غير المتصالح مع تاريخه ولا سيرورته، ولهذا فهو ينتحر!
كما عالجت الرواية باقتدار عقدة الجلاد الذي يتلبّس روح ضحيته، أو عقدة الجلاد الذي يريد استعارة أوجاع ضحيته من أجل أن ينقذ نفسه وروحه،وهذا أمرٌ جديد في الرواية العربية، على ما أعلم! لهذا كله، فرحت بهذه الرواية التي تقول:إن النص الروائي في فلسطين بخير ويعوَّل عليه