مقالات
مَعَ الْمُتَنَبِّي في أَمْثالِهِ وَحِكَمِه / أ. د. لطفي منصور
يَقُولُ أَبُو الطَّيِّبِ مِنْ قَصيدَةِ عِتابٍ لِلْأَمِيرِ الْحَمَدانِيِّ سَيْفِ الدَّوْلَةِ في حَلَبَ، وَهِيَ آخِرُ قَصِيدَةٍ أَنْشَدَها لِلْأَمِير سَيْفِ الدَّوْلَةِ:
– أُعِيذُها نَظَراتٍ مِنْكَ صادِقَةً
أَنْ تَحْسَبَ الشَّحْمَ فِيمَنْ شَحْمُهُ وَرَمْ
– وَما انْتِفاعُ أَخِي الدُّنْيا بِناظِرِهِ
إذا اسْتَوَتْ عِنْدَهُ الْأَنْوارُ وَالظُّلَمُ
أُعِيذُها: أَحْفَظُها وَأَحْمِيها. إنِّي أَعْلَمُ آراءَكَ الصّادِقَةَ. حَماها اللَّهُ أَنْ تَكُوَنَ مِمَّنْ يَحْسَبُ اِنْتِفاخَ الْوَرَمِ صِحَةً وَسَلامَةً، وَيَعْنِي بِها مُبالَغَةَ الْمَديحِ بِلُغَةٍ رَكِيكَةٍ.
ثُمَّ يَأْتِي الاسْتِفْهامُ الرّائِعُ: ماذا يَسْتَفيدُ أَعْمَى الْبَصيرَةِ مِنْ نُورِ عَيْنَيْهِ؟
– وَهَلْ نافِعِي أَنْ تُرْفَعَ الْحُجْبُ بَيْنَنا
وَدُونَ الَّذِي أَمَّلْتُ مِنْكَ حِجابُ
– وَفي النَّفْسِ حاجاتٌ وَفِيكَ فَطانَةٌ
سُكُوتِي بَيانٌ عِنْدَها وَخِطابُ
كانَ أَبُو الطَّيِّبِ يَأْمُلُ بِوِلايَةٍ يَحْكُمُها مِنْ كافُورٍ، وَكَانَ يُلَمِّحُ بِهَذا في شِعْرِهِ،لََكِنَّ كافُورًا كانَ حَذِرًا، وَاكْتَفَى بِرَفْعِ الْحِجابِ بَيْنَهُما. فَخاطَبَهُ أَبُو الطَّيِّبِ بُجُرْءَةٍ مُتَناهِيَةٍ:
ما فائِدَةُ رَفْعِ الْحِجابِ بَيْنَنَا، وَما آمُلُهُ مِنْكَ مَحْجوبٌ؟
لَنْ أُصَرِّحَ بِه، لِأَنَّ فِطْنَتَكَ وَذَكاءَكَ يَكْفِيانِ لِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ، وَسُكُوتي عَنِ التَّصْريحِ هُوَ بَيانٌ واضِحٌ.
– شَرُّ الْبِلادِ مَكانٌ لا صَدِيقَ بِهِ
وَشَرُّ ما يَكْسِبُ الْإنْسانُ ما يَصِمُ
– وَشَرُّ ما قَنَصَتْهُ راحَتي قَنَصٌ
شُهْبُ الْبُزاةِ سَواءٌ فِيهِ وَالرَّخَمُ
– هَذا عِتابُكَ إلّا أَنَّهُ مِقَةٌ
قَدْ ضُمِّنَ الدُّرَّ إلّا أَنَّهُ كَلِمُ
اُنْظُرُوا إلَى الْمَثَلَيْنِ اللَّذَيْنِ ضَرَبَهُما الشّاعِرُ في بَيْتِ “شَرُّ الْبِلادِ..الخ.
الشَّرُّ الْأَوَّلُ مَكانٌ لا صَدِيقَ بِهِ، وَيَعْنِي بِهِ حَلَبَ، فَقَدْ فَقَدَ آخِرَ صَديقٍ لَهُ وَهُوَ الْأَميرُ، نَفْهَمُ هَذا مِنْ قَوْلِهِ لَهُ:
– يا أَعْدَلَ النّاسِ إلّا في مُعامَلَتِي
فِيكَ الْخِصامُ وَأَنْتَ الْخَصْمُ وَالْحَكَمُ
وًالشَّرُّ الثّانِي أَنْ يَكُونَ ما يَجْنِيهِ الْإنْسانُ وَبالًا وَعَيْبًا عَلَيْهِ، وَأَنْ يَعُودَ خالِيَ الْوِفاضِ يَقْبُضُ عَلَى الْماء.
وَهُناكَ شَرٌّ ثالِثٌ أَنْ يُساوِيَ الْأَميرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشُّعَراءِ الْآخَرِينَ. وَرَمَزَ لِنَفْسِهِ بِالْبازِ الْأَشْهَبِ وَالْآخَرينَ كَطُيُورِ الرَّخَمِ الضَّعيفَةِ.
وَيَخْتَتِمُ عِتابَهُ بِبَيْتٍ لا يُدانِيهِ بَيْتٌ في الجمالِ :
هذا عِتابُكَ أَيُّها الْأَميرُ، وَهُوَ عِتابُ مَحَبَّةٍ، عِتابٌُ مِنْ دُرَرِ الْكَلامِ.
الْعِتابُ مُشْتَقٌّ مِنَ الرِّضا، وكان الشَّاعِرُ يَأْمُلُ أَنْ يَرْضَى بِهِ أَميرُهُ، وَيَمْنَعُهُ مِنْ مُفارَقَةِ حَلَبَ. لَكِنَّ سَيْفَ الدَّوْلَةِ آثَرَ الصَّمْتَ، لِأَنَّ الْحُسّادَ أَوْغَرُوا صَدْرَهُ عَلَيْهِ وَفي مُقَدِّمَتِهِمْ أَبُو فِراسٍ.
وَكانَ الْمُتَنَبِّي يُعاني مِنْ هَؤُلاءِ الْحُسّادِ فَخاطَبَهُ قائِلًا:
أَزِلْ حَسَدَ الْحُسّادِ عَنِّي بِكَبْتِهِمْ
فَأَنْتَ الَّذِي صَيَّرْتَهُمْ لِي حُسَّدا
لَوْ شَدَّ زَنْدِي حُسْنُ رَأْيِكَ فِيهِمُ
ضَرَبْتُ بِسَيْفٍ يَفْلَقُ الْهامَ مُغْمَدَا
إلَى هُنا.