مقالات
أ.د. لطفي مَنْصور / أَنَّةٌ مِنْ أَلَمٍ
تَرْتَجُّ يَدِي كُلَّما أَمْسَكْتُ بِالْقَلَمِ لِأَخُطَّ ما يَطْفُو عَلَى فِكْرِي مِنْ مَواضِيعَ الَّتي تَتَزاحَمُ لِلْخُروجِ لِتَجِدَ لَها مَكانًا عَلَى صَفْحَتِي.
وَلَيْسَ سِرًّا أَنَّ الْمَواضِيعَ الْأَدَبِيَّةَ أَقْرَبُ ما يُكْتَبُ عَلَى نَفْسِي. لَكِنَّ وُلُوجَ هَذِهِ الْجَنَّةَ لَيْسَ مِنَ السَّهْلًِ . فَهِيَ تَحْتاجُ إلى صَفاءِ الذِّهْنِ ، وَهُدُوءِ الْبالِ ، وَالرّاحَةِ النَّفْسِيَّةِ، وَأَيْنَ نَحْنُ الْعَرَبُ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوالِ فَتَحْصِيلُها سائِغَةً أَعَزُّ مِنْ بَيْضِ الْأُنُوقِ .
لا شَكَّ أَنَّ الْأُمَّةَ الْعَرَبِيَّةَ وَالْإسْلامِيَّةَ تَعِيشُ في هِذِهِ الْأَيَّامِ أَحْرَجَ أَوْقاتِها، لِمَنْ كانَ عِنْدَهُ حِسٌّ وَانْتِماءٌ لِأُمَّتِهِ وَلِلْإنْسانِيَّةِ جَمْعاءَ.
إنَّ الْكارِثّةَ الْعُظْمَى الَّتِي حَدَثَتْ في سورِيةَ وَتُرْكِيَّةَ تَشِيبُ لَها الْوِلْدانُ، وَلا يُصِدِّقُها الْعَقْلُ بِما خَلَّفَتْهُ مِنْ شُهَداءَ وَدَمارٍ. فَهاهُوَ الْأُسْبُوعْ الثّانِيِ يَكادُ أَنْ يَمْضِي وَلا تَزالُ الْحَفْرِيّاتُ لِإزالَةِ الرُّكامِ، وَإخْراجِ الْجُثَثِ الْعالِقَةِ لِتُدْفَنَ بِاحْتِرامٍ وَإجْلالٍ كَما تَقْضِي الْأَعْرافُ الْإنْسانِيَّةُ.
تَغَمَّدَ اللَّهُ شُهَداءَ تِلْكَ الٍكارثّةِ بِرَحْمَتِهِ وَرِضْوانِهِ، وَأَبْدَلَهُمْ حَياةً وَمَساكِنَ خَيْرًا مِنْ دُنْياهُمْ، في جِنانِ النَّعِيمِ.
وَخَيْرُ ما يُسَرِّي عَنِ النَّفْسِ قَليلًا قِراءَةُ ذَلِكَ الشِّعْرِ الّذِي قالَهُ الشُّعَراءُ قَدِيمًا، بَعْدَ أَنْ أَصابَتْهُمُ نَوائِبُ الدَّهْرِ ، فَوَصَفُوا حالَهُمْ وَصَبْرَهُمْ في الْخُطُوبِ، وَأَخُصُّ مِنْهُمْ شُعَراءَ قَبيلَةِ هُذَيْلٍ ، فَقَدِ اخْتَرْتُ لَكُمْ أَبْياتًا لِأَبي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ يَنْعَى أوْلادَهُ الْخَمْسَةَ، وَيُقالُ السَّبْعَةَ الَّذينَ هَلَكُوا في يَوْمٍ واحِدٍ، بَعْدَ أَنْ أُصِيبُوا بِالطّاعُونِ : مِنَ الْكامِل
– أَمِنَ الْمَنُونِ وَرَيْبِها تَتَوَجَّعُ
وَالدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ
(اْلْمَنُون: الْمَنِيَّةُ وَالْمَوْتُ. وَالْهَمْزَةُ في الْمَطْلَعِ لِلِاسْتِنْكار،
الرَّيْبُ: الْخَشْيَةُ، مُعْتِبٌ: مُسامِحْ، وَالْجَزَعُ: الْحُزٍنُ الشَّدِيدُ)
– قالَتْ أُمَيْمَةُ ما لِجِسْمِكَ شاحِبًا
مُذْ ابْتُذِلْتَ وَمِثْلُ مالِكَ يَنْفَع
(أُمَيْمَةُ: زَوْجُ الشَّاعِرِ ، شاحِبًا: مُصْفَرَّ الْوَجْهِ؛ اُبْتُذِلْتَ: أَهَنْتَ نَفْسَكَ بِالِامْتِهانِ بَعْدَ مَوْتِ بَنِيكَ – لَسْتَ بِحاجَةٍ لِهَذا – لِأَنَّ مالَكَ وافِرٌ)
-أمْ ما لِجَنْبِكَ لا يُلائِمُ مَضْجَعًا
إلّا أَقَضَّ عَلَيْكَ ذاكَ الْمَضْجَعُ
(أَقَضَّ عَلَيْكَ: صار تَحْتَ جَنْبِكَ كَالْقَضَضِ، وَهُوَ الْحَصَى، فَصارَ لا يَعْرِفُ النَّوْمَ)
– قَأَجَبْتُها أَنْ ما بِجِسْمِي أَنَّةٌ
أَوْدَى بَنِيَّ مِنَ الْبِلادِ فَوَدَّعُوا
(أَنْ: الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، اسمُها ضَمِيرُ الشَأْنِ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ أَنَّهُ؛ ما: اسمٌ مَوْصُولٌ بِمَعْنَى الَّذِي، أَوْدَى: هَلَكَ)
– أوْدَى بَنِيَّ وَأَعْقَبُونِي غُصَّةً
بَعْدَ الرُّقادِ وَعَبْرَةً لا تُقْلِعُ
(الرُّقادُ: يَمٍنَعُهُ حُزْنُهُ الرُّقادَ حِينَ يَنامُ النّاسُ، الْعَبْرَةُ: الدَّمْعُ)
– سَبَقُوا هَوَيَّ وَأَعْنَقُوا لِهَواهُمُ
فَتُخُرِّمُوا وَلِكُلِّ جَنْبٍ مَصْرَعُ
(هُوِيَّ: هَوايَ، هَذِهِ لُغَةُ هُذَيْلٍ مَعَ الاسْمِ الْمَقْصُورِ الْمُضافِ إلَى ياءِ الْمُتَكَلِّمِ، يَقولُونَ فَتَيَّ بَدَلَ فَتايَ وَعَصَيَّ بَدَلَ عَصايَ،
تُخُرِّمُوا: هَلَكُوا الْواحِدُ بَعْدَ الْآخَرِ ، أَعْنَقُوا: أَسْرَعُوا)
– وَلَقَدْ حَرِصْتُ بِأَنْ أُدافِعَ عَنْهُمُ
فَإذا الْمَنِيَّةُ أَقْبَلَتْ لا تُدْفَعُ
– وَإذا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفارَها
أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لا تَنْفَعُ
إلَى هُنا.