منوعات
الاسم؛ ( إيجبت.. كِمِــــيتْ) وليس مصر / محمد مبروك
عند البحث عن اسم الدولة وجذوره، سنجد روايتين متناقضتين؛ واحدة تعود إلى أوروبا والثانية تعود إلى آسيا! فنقرأ عن اسم إيجبت أنه جاء من الأصل اليوناني إيجبتوس: أي ثقافة ولغة أوربية وليست وطنية محلية! بينما الاسم الآخر (مصر) جاء من أصول عربية عبرانية تعود إلى مصرايم ابن بنصر ! أي ليس وطني ولا علاقة له بالهيروغليفية هو الآخر! فهل هكذا تمزقت هوية الوطن!
في الكتاب المعنون ” مصر الأخرى” سنعرف في الإضاءة الأولى منه أنه بمجرد النظر إلى حواف شهادة الميلاد سنلحظ عبارة مكررة داخل خرطوشة ملكية بالخط الهيروغليفي مضمونها ” مِسْ إم كِمِيتْ ” وتعني ” وُلِد في كِميت” وهذه العبارة هي التي تمنحك جنسية هذا البلد العظيم، و”كِمِيتْ” هو اسم بلادنا وادي النيل. فقد أطلق أجدادنا على بلادنا إسمان معاً خلال عصور التاريخ؛ أحدهما على المستوى الوطني المحلي، والآخر على المستوى الدولي العالمي؛
الاسم الأول هو؛ كِمِيت؛ ومعناه “الأرض السمراء” وهذا الاسم كان ذا طابع محلي وطني. كان أجدادنا يطلقونه على الأرض الخصبة فقط المساحات المنزرعة التي يطمرها الفيضان ويغنيها بالطمي والغرين، كانت هي مصدر الخيرات في هذه الأرض، فيمكننا القول أن كلمة كميت تساوي حرفياً (وادي النيل)
والاسم الثاني:إيجبت؛ كلمة هيروغليفية أصلية من الجذر اللغوي “إي جبت” ومعناه ”أرض الإله” وهذا الاسم كان ذا طابع سياسي دولي عالمي، يشمل كل حدود الدولة بالمعني السياسي والجغرافي والقومي؛ أي كل شبر أرض يخضع لسيادة الدولة أياً كان نوعه سواء كان أرض سمراء أو صحراء، وهكذا عرفت الشعوب الأجنبية يلادنا بالاسم الرسمي “إيجبت ”
وقد استمر هذا الوضع حتى القرن السابع ميلادي، حتى دخل العرب بلادنا مع ابن العاص، تم إسقاط الاسم الوطني الأول “كِمِيت” وظهر بدلاً منه مسمى “ديار مصر”، واستمر على مستوى محلي ضيق، بينما بقي الثاني” إيجبت” دولياً عالمياً حتى يومنا هذا. وكان العرب يطلقون على أجدادنا وبلادنا (أقباط – إيقبط ) كون لسانهم عاجز عن نطق اسم الدولة (إيجبت – Egypt)، وإلى اليوم كل دول العالم تنطق Egypt ما عدا الدول العربية تنطق ”مصر” وإسرائيل تنطق” متسرايم” كما نسمعها في نشرات الأخبار كل مساء!
وهذا الاسم الوافد: ديار ” مصر” هو النُطق العربي لكلمة “مصرايم – מצריים ” العبرية القديمة، ولا يوجد له معنى ولا صلة بلغتنا الهيروغليفية. لكن العرب نسبوا شعب الوادي إلى جد أسطوري من جدودهم التوراتية هو مصرايم ابن بنصر ابن حام حسب الأساطير العبرانية. وهذا محض خدعة، لأن شعب وادي النيل لا علاقة له ببنصر ولا مصرايم ولا حتى نوح نفسه، فهذا الشعب يسكن أراضي وادي النيل منذ بدء الخليقة، بينما طوفان نوح جاء قبل خمسة آلاف عام. ومن أحفاد نوح جاء حام ومصرايم في الوقت الذي كان شعب وادي النيل يتجاوز ملايين ويستعدون لبناء أول هرم، فكيف يقولون أننا أبناء حام ومصرايم هذا !
وفي الإضاءة الثانية من الكتاب توضح أن الترجمة السبعونية للتوراة سارت على نمط أسطوري جعل كل الشعوب من نسل عشيرة نوح، فقد فكروا في القضاء على أساس المجتمعات المدنية والحلول محلها بالقبلية والعشائرية مغلفة بالقداسة النوحية، بأن جعلوا كل الشعوب قبائل متفرعة عن أصل واحد زمامه بيد اليهود! فاليهود عجنوا التوراة ليصنعوا منها خبلاً يثير شهية الكهنة والجهلاء ..
ولكي يصلوا إلى بغيتهم، عمدوا إلى توظيف فكرة الطوفان مرة أخرى، جعلوا طوفان نوح نقطة البداية الثانية لشعوب العالم، على اعتبار أن الطوفان لم يكن عقاباً لقوم نوح وإنما اكتسح البشرية بالكامل وأباد سكان الكوكب بمليارات البشر ومليارات من أنواع الكائنات الأخرى، وكأن نوح كان قادراً على لملمة مليارات الفراشات والزواحف والحيوانات والطيور في سفينته! برغم أن الطوفان وقع في إقليم محدد يسكنه قوم نوح. وزعم اليهود أنه بعد الطوفان بدأ أبناء نوح في الانتشار العنكبوتي لتعمير الكرة الأرضية، وأن مصرايم ذهب إلى إفريقيا واحتل وادي النيل.. وذهب كوش إلى إثيوبيا واحلتها، وذهب أردن ابن نوح إلى الشام واحتلها وذهب أشور إلى العراق واحتلها وذهب سام إلى الشام واحتلها! وجاءت كل هذه الشعوب بعد ذلك من عشائر متفرعة من نسل هؤلاء وهؤلاء تم تسطير أصولهم وأفكارهم وحياتهم وثقافتهم القبلية في التوراة.
بينما الحقيقة أن الطوفان وقع في جنوب الجزيرة العربية، وبعدما جفت المياه اتخذ كل واحد من أبناء نوح منطقة رعي خاصة به وسكن وأولاده فصارت نجع أو قرية باسم مصرايم وسام وحام ..إلخ، وليس أبناء نوح الثلاثة فقط بل السبعين الذين ركبوا السفينة مع نوح، لكن اليهود زعموا أن هؤلاء انقطع نسلهم وبقي ابناء نوح فقط صاروا آباء للبشرية كلها! وبذلك يكون اليهود قد نجحوا في جعل الثقافة التوراتية هي ” أم الكتاب وأرشيف الوجود” لكل الشعوب! سواء من حيث أسماء الدول والبلدان أو من حيث النسب والعرق أو من حيث الأفكار الفلسفية والاجتماعية المطلوب تسكينها في العقول.
فقد قسموا الجنس البشري على أساس عرقي قبلي عشائري كما حال البدو العرب، وتجاهلوا أن شعوب الحضارات هي شعوب مدنية وهي تلك التي تسكن الأودية والسهول وضفاف الأنهار لتزرع وتبني وتعمر الحضارات، مثل الهند والصين وسوريا وإيجبت ..إلخ. وهذه الشعوب المدنية لا تعرف نظام القبائل والعشائر بل نظام المواطنة في القرى والمدن، لكن اليهود بتوظيف الدين عبثوا بأساس علم الاجتماع ذاته وجعلوا القاعدة هي البداوة والقبلية والعشائرية.
غير أن الأصل في الإنسان الاجتماع وليس التفرق، فجميع البلاد تملك مساحات أراضي فضاء شاسعة، فلماذا تلجأ الأسر والعائلات إلى التزاحم والعيش في قرى ومدن؟ ذلك لأن الأصل في الإنسان هو الاجتماع والاستئناس بأخيه الإنسان في مواجهة أخطار الطبيعة، فكيف نجح اليهود في إقناعنا بأن أبناء نوح هذه الأسرة الصغيرة تفرقت وسافر كل فرد منها آلاف الكيلومترات ليحتل دولة ويسكنها منفرداً!
هذا ما يكشفه مسبار العقل في الكتاب الموسوعي المعنون” مصر الأخرى ” ونظراً لكون الباحث مستشار قانوني وقرر أن يحاكم التاريخ بقلمه المسنون وراح يدقق في تشريح صحائف التاريخ بجدية وصرامة، قرر أن يستبعد الخرافة جانباً محاولاً ألا يجرح مشاعرنا الروحانية المتعلقة بها. وقد اختص “المساء” بمقتطفاتٍ من بحثه،
فيقول: جميع الخطط والخرائط الجغرافية والديموغرافية والثقافية والتاريخية والعقائدية تتخذ لها من قصة طوفان نوح محور ارتكاز جماعي لتنتشر منه في دائرة وبائية تتسع موجاتها لتطوي الشعوب المجاورة.. برغم أن منطقة الطوفان لا تجاوز حدود الإقليم الذي سكنه قوم نوح وهم الذين شملهم الإنذار بلغتهم، لأن الله ليس بظلام للعبيد كي يبيد كل البشر دون نذير، ولا كان عاجزاً عن أن يرسل من كل قومٍ رسول منهم وبلسانهم ينذرهم من يوم قيامة الطوفان، وهو القائل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ … ﴾.
لكنهم وسعوا نطاق الطوفان وبالتبعية نطاق انتشار ذرية نوح لكي نفهم نحن ضمنياً أننا أحفاد نوح ونتبرك بذلك! وعلينا تصديق كل ما يقوله الكتاب المقدس عن نوح.. وبالتالي ضمنوا أننا لو قلنا أن بلادنا اسمها إيجبت وليست هي “مصرايم”، رد اليهود: أوتنكرون أن تكونوا أبناء مصرايم ابن نوح؟!.. وكأن أبناء نوح لهم ميزة في الخلق عن باقي البشر! ويكأن قوم لوط ليسو من أبناء نوح! أو كأن بني صهيون ليسو أبناء النبي إبراهيم! فما ميزة الانتساب إلى الأنبياء إذن؟! فقط مجرد خدعة عشقها الكهنة والجهلاء.. أي أنهم قد غرسوا في عقولنا فكرة مسبقة كي تخدم فكرة أخرى لاحقة، حتى وإن قالت التوراة أن عشيرة المصرييم وقعت في السبي البابلي مع بني إسرائل لمدة أربعين عاماً وتركو بلدهم مصرايم خراباً ومرتعاً للسباع والرباع! .. وكل ذلك كي يقنعوا العالم بأن بني إسرائيل كانت لهم مملكة عظمى توازي إمبراطورية وادي النيل!
(قراءة في كتاب ” مصر الأخرى – التبادل الحضاري بين مصر وإيجبت ” للباحث/ محمد مبروك )
يُتبع …
بقلم/ #محمد مبروك