بدأت رحلتي مع الموسيقى مبكرا جدا, فعلى ما روت لي رجاء قاسم Rajaa Qassem أنني عندما كان عمري بضعة شهور فقط كنت أبكي بحرقة عندما تغني لي أغنية حزينة/حنونة, وكان يمكنها أن تقلب مزاجي بظرف دقائق عندما تغني لي أغنية فيها أيقاع وحركة وفرح. فالموسيقى تلامس روح الإنسان حتى بهذا العمر, بل وحتى وهو في رحم أمّه. ونشأتُ في بيت كان الشعر والموسيقى به كالخبز, الشعر من أمي والموسيقى من أبي.
لكن رحلتي مع العزف على الآلات بدأت بعمر الثالثة عشرة (في عارة – فلسطين) عندما اقتنى لي أخي منعم Minem Azab “أورغ”, فشرعت بتعليم الموسيقى على يد الأستاذ الفذّ محمّد المهداوي رحمه الله. رأى بي معجزة موسيقية, فقد أنهيت بخلال ثلاثة أشهر أربع كتب لتعليم البيانو كانت معدة للتعليم على مدار سنتين أو أكثر. عندما انتهينا من الكتاب الرابع كنت بمرحلة أتقن فيها عزف مقطوعات موسيقية غربية كلاسيكية صعبة نسبيا لباخ وبيتهوفن وليسزت (أذكر أن أخر مقطوعة عزفتها معه كانت للهنغاري فرانز ليسزت, وكانت صعبة جدا). طلبت منه أن نأخذ استراحة من الموسيقى الكلاسيكية وأن ننتقل للمقامات العربية, فرفض رفضا قاطعا. قال لي أنه علي أن لا أضيع موهبتي على الموسيقى العربية وأنه سيكون لي مستقبلا باهرا إن أنا أكملت على البيانو, كعازف موسيقى كلاسيكية. فوجئت مفاجأة كبرى, وقلت أنني لست ضد الموسيقى الكلاسيكية, لكنني أيضا أحب الموسيقى العربية جدا, وكنت حينها بجأت اكتشاف أم كلثوم واستمع لها يوميا, وكنت منبهرا بصوتها وأدائها والكلمات والألحان (وما زلت). أصررت على أنني لن أكمل التعليم إذا لم يعلمني أغنية عربية, وبعد نقاش عميق, أعطاني “قال جاني بعد يومين” لسميرة سعيد, لأن موسيقاها وتوزيعها أقرب للموسيقى الكلاسيكية. عزفتها بخمس دقائق, وشعرت بنوع من الإهانة, فأين هذه الأغنية من “الرافسودي الهنغارية- لليسزت”, مثلا؟ فزاد عنادي وأصررت على تعلّم المقامات, فزاد رفضه وأصر أن الموسيقى الكلاسيكية هي الأرقى, وعلي أن أكمل كعازف بيانو كلاسيكي! غضبت جدا وقررت ترك تعليم الموسيقى نهائيا, وقطعت عهدا على نفسي أن أتعلم الموسيقى العربية والمقامات لوحدي دون معلّم, وهكذا صار. وكانت هذه آخر مرة درست فيها الموسيقى رسميا. انتقلت من “بيانو” لـ “أورغ” بنغمات شرقية, واليوم, وبنظرة للخلف, أحس بالندم, لأن النغمات الشرقية بالأورغ مزيفة, ولا تعبّر عن الأبعاد الموسيقية الحقيقية للمقامات الشرقية, وتدمّر الأذن الموسيقية.
عند انتقالي للجامعة (في Jerusalem- القدس- فلسطين) , لم آخذ معي الأورغ, ولم أنقطع عن البيانو, فقد كان هناك بيانو في الطابق السفلي من كافيتريا الطلاب في هداسا-عين كارم كنت أداوم العزف عليه. اشتريت قيثارة, عزفت عليها بضعة أشهر, لكن رجعت لنقطة الصفر, فهي لم تشف غليلي بتاتا, لأنها مصممة وفقا لسلم الموسيقى الغربي ولا يمكن عزف غالبية المقطوعات العربية عليها. وفي يوم من السنة الثانية في اللقب الأول, حزمت أمري وذهبت للقدس العتيقة واشتريت أول عود لي. كان عودا سيئا جدا (من أعواد الزينة المعلّقة بسوق القدس على أبواب الحوانيت), لكن لم يكن باستطاعتي شراء أي شيء أكثر جودة وأعلى ثمنا. حاولت العزف عليه سنة كاملة, لكنه كان مرهقا جدا للأذن. بالنهاية, ومن سوء صناعته وكثرة الأزيز فيه قمت بعمل جنوني, قصصت الزند بمنشار وقمت بإلصاقه مجددا بلاصق قوي يستعمل لإلصاق الشقوق بمحركات السيارات. كان شكله مريعا جدا!!!!!! لكن الأزيز صار أقل بكثير, وعزفت عليه بهذه الحالة لما يقارب السنة. عندما أنهيت لقب الصيدلة, وتحسنت الحالة المادية قليلا, وبعد “أول معاش”, اشتريت عودا عراقيا بجودة أفضل بكثير, وكان رفيقي لحوالي سبع سنوات خلال الماجستير والدكتوراة. أمّا عودي الأول الذي نشرته وألصقته فقد أعطيته لأمي لتستعمله خشبا لغلي عصير البندورة (حرفيا, “عملت عليه ميّة بندورة!
ثم انتقلت لدراسة ما بعد الدكتوراة في (بوسطن – ماساتشوستس Boston, Massachusetts), وبالإضافة للعلوم في جامعة هارفارد, كنت مشتركا مع فرقة التخت الشرقي في جامعة “تافتس” كعازف عود ومغن, وأقوم بتمرين الكورال (غالبيتهم أمريكيين) على الغناء بالعربية. في كل مرة كانت تجتمع فيها الفرقة كاملة للعزف, بما في ذلك عدد لا يستهان به من الكمنجات والآلات الوترية الأخرى (فيولا, تشيلو, كونتروباص), كان يسحرني صوت الوتريات والعمق الذي يعطيه لأي معزوفة أو أغنية نؤديها. في هذه المرحلة قررت أنني يجب أن أتعلم العزف على الكمان. اشتريت كمانا وبدأت أتدرب في البيت. بالنسبة لمواضع الأصابع باليد اليسرى لم يكن الأمر صعبا, فهي لا تختلف كثيرا عن العود وإن كانت تحتاج لدقّة أكثر. لكن المعضلة كانت بحركة القوس. في البداية كان القوس يصدر أصواتا مريعة فعلا, أخذني بضعة أسابيع لإتقان “جرّة القوس” لإصدار صوت نقي وجميل, وأظن أن فداء Fida Azab سيخفف عنها الله سيئات كثيرة بالآخرة, من العذاب الذي عانته معي أثناء تمريني في البدايات على الكمان, والأصوات المفزعة التي كانت تصمّ طبلة أذنيها.
ثم انتقلت لأول وظيفة أكاديمية لي في جامعة واشنطون في (سانت لويس – ميزوري St. Louis, Missouri). وكانت قد أهدتني صديقتي البروفيسورة Ann E. Lucas “ناي” (تتقن هي العزف عليها), كهدية وداع قبيل انتقالي. لم أعرف ما أصنع بها في البداية, حاولت أن أنفخ بهذه “القصبة المثقوبة” لكن عبثا! لم يخرج أي صوت! وأخذني وقت لكي أصدر أي صوت من “قطعة القصب” تلك, بالغالب كانت أصوات “خشخشة” مزعجة وأصوات بطبقات مختلفة دون أن أدوس على أي من الثقوب. كان لها نظام مختلف عن الآلات الوترية والبيانو التي اعتدت عليها. لطالما كنت أسمع عن “الناي الحنون” … فحاولت يوما أن أتقمص حالة من الحزن العميق, ولففت نفسي ببطانية وجلست على فرشة قديمة على الأرض وحاولت العزف. صدقوا أو لا تصدقوا… فجأة خرج صوت من “القصبة المثقوبة” و بقدرة قادر تحولت الى “ناي” … وكان حنونا فعلا! عزفت نغما من مقام الصبا, أثار بي شجنا وحنينا!
فصار نوع من “العادات والتقاليد” أنني في كل انتقال لمدينة جديدة أبدأ العزف على آلة جديدة. وعندما انتقلنا لـ (دالاس – تكساس Flower Mound, Texas), بدأ النقاش ما هي الآلة الجديدة التي علي العزف عليها. كان بودي أن أشتري “مجوز” و”أرغول” لأعزف وأتذكر التراث بالوطن. لكن فداء وضعت “فيتو”, لأن أصواتهما عالية جدا (حسب وصفها) وممكن أن “نزعج الجيران”! هي اقترحت “القانون” عوضا عنهما. لكن أنا كان لي رأي آخر, أن “الأرغول أحّن من القانون” 🤣🤣🤣(كما قال أبو عنتر “للموسيقار” حسني البورظان في “أوتيل صح النوم” أنه “المهباج أحنّ من القانون”🤣🤣🤣). المهم, وحفاظا على السلام بالعائلة, وصلنا لحل وسط, أن أشتري “بُزُق”… وها هو شرّفنا بوصوله اليوم بالبريد من إزمير- تركيا. لينضمّ الى أقرانه في “زاويتي الموسيقية”…
نعود لجمال البدايات … وسنوافيكم بالتفاصيل قريبا!