ثقافه وفكر حر

من مختارات التربوي المتقاعد عوني عارف ظاهر قصة القول : جشع المختار والمحافظ وعفة قاطع الطريق

بين الخيال والواقع …
كان في إحدى قرى جنين (بفلسطين) في ثلاثينيات القرن العشرين كان رجل غني (وبالتعبير الدارج: الله منعم ومفضل عليه)
وعندما دنا اجله نادى ابنه البكر ودله على مخبأ الفلوس وأخذ يوزع الفلوس فقال له: تعطى كل واحد من أخواتك كذا ليرة …. (الليرة تساوي جنيه إنجليزي ذهبي) .. وتعطي أمك كذا ليرة …. وعماتك كل واحدة كذا ليرة …. وتعطي الجامع كذا ليرة … وبعد أن حسب المبالغ الموزعة تبقى من الفلوس مائة ليرة فقال لابنه: أعطهن لأي خريب ذمة يمكن إن تصلح ذمته وتعدل حاله بعد أن يرى هذا المبلغ وكأنه هبط عليه من السماء، وأسلم الرجل روحه لله بعد أن طلب من ابنه توزيع المبلغ كما يشتهي، وبعد أن انتهت فترة العزاء؛ اخذ الابن بتوزيع التركة وصار يفكر كيف يتصرف بالمبلغ المائة ليرة ولمن يعطيه؛ فهداه تفكيره إن يعطيه لأحد قطاع الطرق وقال في نفسه: إن قطاع الطرق يقتلون النفس من اجل خمس ليرات فأنا عندما أعطى قاطع طريق المائة ليرة أنقذ عشرين نفساً تترحم لوالدي رحمه الله . فركب فرسه الأصيلة واتجه صوب وادي الدعوق (وهو وادي قرب قرية عرابة وكان مركزاً لقطاع الطرق) ولما وصل الوادي سأل من لفيهم هناك : من اكبر قاطع طريق؟ فأجابوه: اكبر قاطع طريق هو أبو جلدة .
فسألهم: أين أجده؟ فأجابوه: اتجه شرقاً … في جبال طمون.
فاتجه شرقاً جهة جبال طمون . فقابله في طريقه ثلاث حواجز مسلحين من أتباع أبو جلده؛ وقد وجد على الحاجز الأخير (الذي بجانب مغارة أبو جلدة)
امرأة جميلة جداً (بالتعبير الدارج: بتفك عن حبل المشنقة)
تركب حماراً وأمامها على الحمار خروف؛ قالت للحارس: أريد أن أرى أبو جلده.فسألها الحارس: وماذا تريدين منه؟ فأجابت: أحضرت له هذا الخروف هدية؛ وأريد منك أن تقول له: فلان قتل زوجي كي يتزوجني، وأنا قطيعة (ليس لي أخ ولا أب ولا ابن) وزوجي المرحوم قطيع أيضا، أريد من أبو جلدة إن يأخذ لي بثأري منه.. أنا لم أجد ابن حلال يأخذ لي بثأري فحضرت إلى أبو جلدة ابن حرام كي يأخذ لي بثأري والخروف الذي أمامي أجرته.
فدخل الحارس في المغارة وأخبر أبو جلدة بما أخبرته به المرأة
فقال أبو جلدة للحارس : قل للمرأة “طلبك وصل” وارجع لها الخروف ولا تدعها تدخل المغارة. (طلبك وصل – معناه أنه سوف يأخذ لها بثأرها من قاتل زوجها)
(طلب من الحارس أن يمنع المرأة من دخول المغارة حفاظاً على سمعتها)
فذهب الحارس للمرأة واخبرها بما اخبره به أبو جلدة وارجع لها الخروف فجن جنون المرأة وأخذت تبكي وأصرت على إعطائه الخروف.
فدخل الحارس المغارة مرة ثانية وقال لأبي جلدة: المرأة مصرة على إهداءك الخروف؛ فقال أبو جلدة للحارس : قل لها إن أبا جلده ليس كمثل حافظ باشا طمئنها وقل لها : طلبك وصل وأرجع لها الخروف.
(حافظ باشا كان حاكم – كمحافظ الآن – جنين في أواخر الحكم التركي وكان يقبل الخروف عندما يريد تنفيذ الطلب للمراجعين وكان يرجع الخروف عندما كان لا ينوي تنفيذ الطلب)
فاقنع الحارس المرأة بان أبو جلدة ليس كمثل حافظ باشا وهدأها وطمأنها بان أبا جلدة سوف يأخذ لها ثأرها من القاتل.
وبالفعل لم يمض أسبوع حتى اخذ لها بثأرها. كل هذا المشهد حصل أمام الابن راكب الفرس. وبعد أن انتهى الحارس من المرأة. سأل الحارس راكب الفرس (ابن الثرى المرحوم) ماذا تريد؟ فقال الابن للحارس: أريد أن أقابل أبو جلدة.
فسال الحارس الابن: وماذا تريد منه ؟ فقال الابن للحارس: عندما أقابله أقول له ماذا أريد منه. فدخل الحارس المغارة وقال لأبي جلدة : هذا الرجل يريد إن يقابلك.
فقال أبو جلدة للحارس: ماذا يريد مني؟ فقال الحارس لأبي جلدة: الرجل يركب فرس أصيلة ثمنها كبير فمن غير المعقول أن يحضر بها إلينا ويكون قصدك بشر.
فقال أبو جلدة للحارس: دعه يدخل للمغارة.
فدخل الرجل المغارة وحيا أبو جلدة الذي رد علية التحية.
وعرفه بنفسه وقال لأبي جلده: أنا ابن فلان من القرية الفلانية توفي والدي منذ أسبوع؛ فرد أبو جلدة: أنا اسمع بابيك لكني لا اعرفه ….. يرحمه الله؛
وعاد وسال أبو جلدة: ماذا تريد مني ؟ فاخرج الرجل (الابن) المائة ليرة من جيبه وقدمها لأبي جلدة فرفض أبو جلدة استلامها منه.
فسال أبو جلدة الرجل: ما هذا المبلغ؟
فقال له الرجل: هذا المبلغ أوصاه أبى رحمة الله عليه …. لك؛
فسال أبو جلدة الرجل : وكيف يوصى لي وأنا لا أعرفه؛
فقال له الرجل: أوصاه لك … وأرجو منك أن تقبله .
فسال أبو جلده الرجل : قل لي بصراحة … ماذا قال والدك المرحوم بالضبط؟
فقال له الرجل: قال والدي المرحوم: أعطهن لأي خريب ذمة.
فقال أبو جلدة : أنا خريب ذمة … لولا أنك في ساحتي لرميتك بالرصاص .
فقال له الرجل: بصراحة؛ أنت تقتل الرجل على خمس ليرات …
وأنا أحضرت لك مائة ليرة …… .. يعني دية عشرين رقبة؛
فقال أبو جلدة: ارجع المبلغ إلى جيبك إني لن آخذه .
فقال الرجل: إني مطالب شرعاً أمام الله بتنفيذ وصية والدي المرحوم .
فقال أبو جلدة:اذهب وأعطهن لأي مختار (عمدة)
وأردف قائلاً: إلا يوجد في بلدكم مختار .
فقال الرجل: لقد مات مختار بلدنا وهي الآن بدون مختار!.
فقال أبو جلدة:البلد (القرية) التي بجواركم ألا يوجد فيها مختار؛
فقال الرجل: نعم يوجد في القرية التي بجوارنا مختار؛
فقال أبو جلدة: اذهب وأعطهن لمختار القرية التي بجواركم؛
فغادر الرجل المغارة وركب فرسه وذهب إلى القرية المجاورة لقريتهم،
وذهب إلى بيت مختار القرية ودق عليه الباب، ودخل بيته وحياه، ثم اخرج من جيبه المبلغ المائة ليرة وقدمهن له وقال له: هذا المبلغ وصية لك من والدي المرحوم؛
فرفض المختار استلام المبلغ وقال له: تعال معي إلى الجامع ( المسجد ) فذهبوا للجامع، فقال المختار للرجل: هيا نتوضأ سوية (لأن المصحف لا يمسه إلا المطهرون)؛ فتوضأ الرجلان (الابن والمختار) في الجامع؛
ثم أحضر المختار المصحف ووضعه أمام الابن وقال له:
احلف على كتاب الله بأن والدك المرحوم لم يوصي لي إلاّ بهذا المبلغ فقط،
وأردف المختار أيضاً: لقد كان بيني وبين المرحوم والدك ” وحدة حال” ومستحيل أنه قد أوصى لي بهذا المبلغ فقط؛ أعتقد جازماً أن المبلغ الذي أوصى به والدك المرحوم كان أكثر من هذا بكثير وأنت أخذت منه ولم تبق لي غير هذا المبلغ الصغير. ـــــــــــــــــــ انتهت الحكاية ـــــــــــــــــــــــــ

لقد تفوق أبو جلده على اثنين من قادة المجتمع وهما المختار والمحافظ.
لقد تاب أبو جلدة لله تعالى وتحول من قاطع طريق يقتل الأبرياء إلى مناضل ضد الإنجليز المستعمرين والذين أحضروا لفلسطين اليهود في مشروع استعماري (إسرائيل) أكثر إيلاما منهم وظل يقاتل الإنجليز إلى أن قتل على أيديهم مجاهداً في سبيل الله تعالى دفاعاً عن وطنه ودينه وأمته ضد الإرهابيين القادمين من أعالي البحار (الإنجليز)؛ لقد تحول من الإرهاب إلى مقاومة الإرهابيين الإنجليز.“
على الأقل لا زال أبو جلدة وصاحبه العرميط جزءاً من الأهازيج الشعبية الفلسطينية والتي تقول إحداها:

قال أبو جـلـدة وأنا الطموني … كـل الأعادي ما بهموني
قال أبو جلدة وأنتا العرميطي .. وأنا إن متت بكفيني صيتي
قال أبو جلدة يا خويا صالح . اضرب لا تخطي والعمر رايح
قال أبو جلدة وأنا العرميطي … والله من حكم الدولة لفظي
وأبو جلدة ماشي لحاله.. والعرميط راس ماله
وأبو جلده والعرميط .. ياما كـسروا برانيط
أبو جلدة والعرميط لم يكونا من أبناء العائلات البرجوازية الكبيرة ليكتبا مذكراتهما وبطولاتهما، فهما كانوا أكثر المناضلين نضالاً، وأقلّهم كلاماً، وقد تركوا للباحثين أن يغرقوا في بحار التاريخ بحثاً عن أخبارهم وأعمالهم كما يبحث الغواصون عن اللؤلؤ

في العام 1933 وقع الرجلين في كمين محكم نُصب لهم وهكذا اقتيد الأبطال إلى الاعتقال وهناك مكثوا في السجن بانتظار حكم الإعدم.

قٌدم الأبطال أبو جلده والعرميط للمحاكمة ونفذ بهما حكم الإعدام في سجن الكشلة في القدس .
اختم المشهد لام العرميط مسعودة العفانة رحمها الله تقول :

هي يا صالح، يا جماعة وشّو تقولوا فيه

هذا صالح ذهب يوسفي يتعنقر فيه

ريت اللي راح للدولة ويدري فيه

يفضح حريمه وكل الناس تدري فيه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق