بارعات العالم العربي

منى قاسم رسامة تجريدية بمزاج أفريقي

سودانية ترسم بقوة الغربة التي تعيشها

رسامة مسكونة بأفريقيا التي تقدمها من جهة المظهر

واجه الرسامون سؤال البيئة بأساليب مختلفة. في الغالب بدت الواقعية نوعا من الوسيط المعقول بين الرسام والبيئة. غير أن ذلك لم يكن هو الحلّ المناسب لمزاج بعض الرسامين الذين يسعون إلى القبض على الإلهام الكامن الذي لا يتجلى من خلال مشهدية البيئة.

الرسامة السودانية منى قاسم تتبع أثر مدرسة “الخرطوم” التي تزعمها إبراهيم الصلحي من غير أن تقلد أسلوب رساميها. فبالنسبة لها فإن البيئة فكرة أكثر مما هي صورة. وهنا موقع اختلافها الذي حصنته بفهم فلسفي عميق للطرق الصوفية التي عرفها السودانيون عبر الزمن.

موسيقى الغربة

رسوم الغربة

سودانية بعمق وعلى كل الجهات. جوهرا ومظهرا. غير أنها ترسم بقوة الغربة التي تعيشها وهي غربة مزدوجة. غربة عن الزمن المحلي بكل ما ينطوي عليه من أفكار وغربة عن الحياة التي صارت عبارة عن طقوس غائبة يجمع ما بينها مفهوم الحنين. ولكنه الحنين الذي لا تشكل المسافة بين الخرطوم وكاسل الألمانية مسرحه. بل هو يقيم في أعماقها باعتباره بوصلة تائهة تشير إلى جهة ما. جهة لا ترغب الفنانة في أن تسميها لكي تبقيها مصدرا لإيقاع موسيقي خفي يغمر روحها بالسلام.

ذلك ما يجعلنا نفهم طبيعة الصلح المتوتر الذي أقامته بين البيئة والأسلوب التجريدي. تجريدية قاسم تجمع بين الفكر الداخلي وتجلي الصورة. فالرسامة تتحدى الرؤية. ذلك عنوان معرضها الأول في الخرطوم. ولكن ما معنى تحدي الرؤية؟

قاسم لا مشكلة لديها مع هوياتها المتعددة. وتلك عادة سودانية تواطأت الجغرافيا والتاريخ على جعلها جزءا من التراث الشخصي

تسعى إلى إثبات أن سيرة الأشياء كما تراها يمكن أن تحل محل السيرة نفسها كما يراها الآخرون. وفي ذلك إنما يتقابل ما يُرى وما لا يُرى من الشيء نفسه في معادلة واحدة. الرسم بالنسبة لمنى هو محاولة لالتقاط معنى غامض ليس متاحا للجميع.

إنه تحدّ لغوي. فاللغة التي تعبر منى من خلالها عن سعادتها بالمشاهد البيئية هي غير اللغة التي يستعملها الآخرون وهم يشعرون بأن البيئة تملأ بصورها الممتعة والحلمية عيونهم.

تطمع برخاء تصويري مختلف. إنها تتحدى النظر المباشر لتصل إلى مرحلة التأمل وفي ذلك تتنقل بين تأثيرات رسامين عالميين متمسكة برغبتها في أن تجمع الحواس كلها من أجل أن يكون السودان حاضرا لكي تراه وتشمه وتتذوقه وتلمسه وتسمع نبضه الداخلي.

الرسامة والمرأة المتحررة

فنانة كتحررة من كل القيود

ولدت قاسم في الخرطوم عام 1976. ما بين عامي 1998 و2003 درست الرسم في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة. أكملت دراستها في جامعة جوبا بالسودان لتحصل على شهادة الماجستير بفلسفة الفن عام 2008. أقامت معرضين شخصيين. الأول في الخرطوم بعنوان “تحدي الرؤية” والثاني في كاسل بألمانيا عام 2021. شاركت في عدد من اللقاءات الفنية العربية والعالمية وهي تقيم وتعمل ما بين الخرطوم وكاسل.

لا تتذكر متى بدأت علاقتها بالرسم “كما لو أنني ولدت بفرشاة في يدي”، وهي تعتقد أن الألوان كانت قد أخذت بيدها إلى عالمها الخاص “عشت وحدي في عالمي ووجدت كل ما أردته فيه. كنت أعرف كطفل أهمية الفن في حياتي”، نشأت كما تقول في بيئة لم تكن هناك حرية للمرأة فيها “هناك العديد من القيود والمحظورات والعديد من الخطوط الحمراء التي يجب عدم تجاوزها”، ذلك ما دعاها إلى أن تلتفت إلى الدور العظيم الذي لعبه الفن في حياتها.

ابن عربي وجلال الدين الرومي تقول عنهما قاسم “إنهما يؤثران اليوم بي بشكل ملموس أكثر بكثير من الثقافة الأفريقية أو ما يتخيله الآخرون على أنه ثقافة أفريقية”

تقول “بالفرش والألوان أتيحت لي فرصة الدفاع عن نفسي ضد هذا النظام”، وتضيف “من أجل عدم الدخول في هذيان المقاومة ضد المجتمع في ذلك النظام، لتبرير وجودي والحصول على صوت، قمت برسم كل شيء من أعماقي حيث تراكم القهر على مدى سنوات من المعاناة”.

كانت هناك علاقة مزدوجة ما بين المرأة التي ترسم والرسامة التي تفكر في الحرية وتحلم بأن يكون لها موقع خاص في المجتمع كما في الفن. تقول “بعد العديد من الرحلات والتجارب البصرية بدأت أجد نفسي وأعبّر عنها بشكل أكثر وضوحا من خلال الرسم. لقد اختزلت لغتي التصويرية واكتفيت بالأقل من الألوان. اليوم لم أعد في حاجة إلى الكثير من الألوان للتعبير عما يجب أن أقوله”.

الرسم بمزاج أفريقي

المزاج الأفريقي حاضر دوما

ليست لدى قاسم مشكلة مع هوياتها المتعددة. تلك عادة سودانية تواطأت الجغرافيا والتاريخ على جعلها جزءا من التراث الشخصي. غير أن العنصر الأفريقي يظل دائما هو الأكثر بروزا لما ينطوي عليه من شعور عميق بالحيوية والمرح والرغبة في المجازفة.

هي رسامة تجريدية بمزاج أفريقي. ليست هناك في لوحاتها إشارات شعبية أفريقية فالرسامة تميل إلى المساحات اللونية التي تدعو إلى التأمل الاستفهامي. غير أنها تكشف عن مزاجها الأفريقي من خلال صخب اللون الذي يعبر في الوقت نفسه عن رغبتها في أن تتحرر من الهوية الأفريقية التي تعتبرها عتبة أولى وليست هدفا.

تجريدية قاسم تجمع بين الفكر الداخلي وتجلي الصورة. فالرسامة تتحدى الرؤية. ذلك عنوان معرضها الأول في الخرطوم. ولكن ما معنى تحدي الرؤية؟

تقول “أنا أفريقية. هويتي الأفريقية تقيم في دمي ومظهري. لكنني أؤمن بأن الفن عالمي” حذرها من التقيد بالهوية الأفريقية له ما يبرّره. فهي ترى أن الكليشيهات الأفريقية صارت نوعا من الدعاية السياحية وهي لا ترسم بمزاج سياحي.

تلك مشكلة معقدة واجهتها بدفاعات إسلامية من خلال لجوئها إلى استلهام فلسفة المتصوفة وبالأخص ابن عربي وجلال الدين الرومي. تقول عنهما “إنهما يؤثران اليوم بي بشكل ملموس أكثر بكثير من الثقافة الأفريقية أو ما يتخيله الآخرون على أنه ثقافة أفريقية”.

مسكونة بأفريقيا التي تقدمها إلى الآخرين من جهة المظهر. غير أنها في الوقت نفسه لا تريد لفنها أن يكون مجرد ملصق سياحي. تسكنها الفكرة. فكرة أن تكون أفريقية مسلمة وعربية. ثلاثية سيكون عليها أن تضبط معادلاتها بنسب يمكن اعتبارها مثالية.

حين تتحدث قاسم عن طريق الحرير وتسميه بالطريق الذهبي فإنها تقصد الاستلهام لطرق متعددة تصل بين الجغرافيا والروح الخلاقة التي تسعى إلى القبض على عناصر هوية تُغلب الفن على الواقع.

بالأقل تُصنع الحرية

فنانة تصنع حريتها بفورشاتها

في فنها تميل قاسم إلى الخلاصات. ذلك ما تعلمته من الفلسفة وهي التي تمارس الكتابة إلى جانب الرسم. أسلوبيا يمكن النظر إلى رسومها باعتبارها جزءا من التيار التقليدي. الأقل هو ما يُسحر دائما. وقد نفكر في الفن الفقير حين نرى رسوما لا تحتفي إلا بلون واحد.

متقشفة وزاهدة وهو ما ينسجم مع رغبتها في أن تتسامى بفنها إلى مستوى أفكار المتصوفة الذين آمنت بهم واعتبرت نفسها تابعة لهم، لكن بلباس معاصر. تلك صفة تسحرها. وهي كالساحرات الأفريقيات تملك أسرارا في ما يظهر من أعمالها. ذلك ما يعينها على أن تبهج روحها. هناك حيث تقع ذاكرتها البصرية الخفية.

تتذكر وهي ترسم. تتذكر ما رأته. ترسم لأنها تتحدى ما رأته. وهي ترغب في أن تخلق فضاء حرا يمكنها التحليق فيه. إنه فضاؤها الخاص وليس فضاء الآخرين. “أود أن أكون وحيدة لذلك اخترت أن أكون غريبة” ذلك ما لم تقله بلسانها غير أن رسومها قالته.

بالنسبة لها باعتبارها رسامة سودانية تحررت من القيود الاجتماعية فإن موهبة أن تكون المرأة حرة تقع في جوهر ما تفعله. لا يمكن أن يكون الرسم فعلا فائضا وهو يساهم في تحرير المرأة. منى قاسم رسامة تهب الحرية طاقة مضافة.

المصدر : العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق