مقالات

هل من الممكن تحديد مفهوم الدين بصيغة تقبلها جميع الاديان؟ (أ.د. حنا عيسى)

ليس الدين بما تظهره المعابد وتبينه الطقوس والتقاليد.. بل بما يختبئ بالنفوس ويتجوهر بالنيات))

(إني أسمع من كل مكان صوتاً ينادي لا تفكر.. رجل الدين يقول لا تفكر بل آمن ورجل الاقتصاد يقول لا تفكر بل ادفع ورجل السياسة يقول لا تفكر بل نفذ.. ولكن فكر بنفسك وقف على قدميك إني لا أعلمك فلسفة الفلاسفة ولكني أعلمك كيف تتفلسف.. إن قليلاًمن الفلسفة يجنح بالعقل إلى الإلحاد، ولكن التعمق في الفلسفة خليق بأن يعود بالمرءإلى الدين.. إذن، من يقرأ القليل في الفلسفة سيتجه بأغلب الأحوال إلى الإلحاد ومن يقرأ الكثير منها يتجه للإيمان بكل حال من الأحوال.. فالرأسمالية تمنحك حرية الكلام وحرية الفكر وحرية الدين. والشيوعية تعطيك الطعام واللباس والدواء).

(انه لمن الضروري أن نضع تحليلا لمفهوم الدين باعتباره أحد مرجعيات الجدل الفكري الذي دار بين العقل والنقل في الفكر الاسلامي قديمه وحديثه، باعتبار كون التفاوت أو الاختلاف في النظر الى الدين كان مصدر ذلك الجدل، فالدين يختلف باختلاف المتدينين الباحثين في تاريخ الأديان.

ومن نتائج هذا الاختلاف أنه يصعب تحديد مفهوم الدين بصيغة تقبلها جميع الاديان،لان هذه الاخيرة متعددة ومتشبعة، واضافة الى ذلك فأن معظم المعتقدات الدينية هيمن نتائج الوحدانية لدى البشر، وقد ضلت مسألة الدين حتى عصرنا هذا تأخذ هذا الطابع من الصراع والاختلاف على المستوى الايدولوجيا وعلى المستوى الاجتماعي والسياسي.

تعريف الدين لغة واصطلاحا:

الدين أحد أهم مكونات شخصية الإنسان وتفكيره وسلوكه وتعامله مع نفسه ومع منحوله.

الدين لغة: هو من الفعل دان أي اعتنق واعتقد بفكر ما أو مذهب ما وسار في ركابهوعلى هداه.

الدين اصطلاحا: فهو جملة المبادئ التي تدين بها أمة من الأُمم اعتقادًا أو عملا.

الدين في الاصطلاح الشرعي الإسلامي:

هو الاستسلام والتسليم لله بالوحدانية وإفراده بالعبادة قولا، وفعلا، واعتقادا حسب ماجاء في شريعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في العقائد والأحكام، والآداب،والتشريعات، والأوامر والنواهي، وكل أمور الحياة.

أما في الاصطلاح العلماني:

فالدين هو شيء قديم من الموروثات، كان في مرحلة زمنية من حياة الأُمم، والدولالعلمانية قد تجاوزته بفضل العلم ومعطيات العقل البشري ففصل عن مجالات التأثيرالاجتماعي والسياسي.

ويعرفه المفكر المغربي علال الفاسي:

مجرد جانب واحد من جوانب الحيات المتعددة، لأنه ليس هناك أمر يماثل الطبيعة في شمولها وسريانها، فلا يمكن لأي أمة ان تختار في حياتها الا أحد الأمرين اما التدين والايمان والسلوك وفق العقيدة، واما الإلحاد، اي التخلي عن الايمان والدين.

أما المفكر الجزائري مالك بن نبي:

فقد حلل ظاهرة الدين في كتابة الظاهرة القرآنية وانتهى القول بأنالدين ظاهرة كونية تتحكم في فكر الانسان وفي حضارته، كما تتحكم الجاذبية في المادة، والدين بهذا السريان الشامل في كل أجزاء الكون وفي الوعي الانساني يبدو وكأنه مطبوع في النظام الكوني أو كأنه قانون للوعي.

ويعرفه ابن رشد: بأنه الشريعة وتعني القانون الالاهي

فيقول: بأن الشريعة أو هو في الاصل ما أنزله الله على رسله وكان اولهم آدم، ثم دخلت عليه شوائب عدة وخرافات وبدع، فاختلف الناس شيعا ومذاهب، وكانوا من قبل أمة واحدة على دين الحق.

الدين عند الفلاسفة اليونان:

لم يكن مصطلح الدين موجودا في العالم اليوناني، فكان هناك مفهوم التقوى الذيمهد للفلسفة من خلال مقولة أن الآلهة هي المسؤولة عن الطبيعة والروح والمدينة،ومقولة الفصل القائم بين عالم الإنسان وعالم الآلهة.

أما أفلاطون استمد أدلته الأساسية على وجود الآلهة من حركة الأجرام السماويةبالقول: إنه لا بد لحركتها العالية الدقة من آلهة تديرها“.

من جانبه، يطرح أرسطو سببين لوجود الإله: انتظام حركة النجوم وقدرة الروح علىالتنبؤ بالمستقبل.

ويبقى الإله في الفكر الأرسطي، متعاليا، ومحركا رئيسا، هو السبب الأول الذي إليهترجع جميع الموجودات. بعد ذلك تأتي المدارس الفلسفية الهيلينية، ما بعد الأرسطية،التي أظهرت مزيدا من الاستيعاب للدين الذي أفضى، مع الفلسفة، إلى شكل من أشكالالسعادة. وقد اتخذت علاقة الدين مع الإله شكل علاقة شخصية تتبلور أكثر فأكثر.

الدين في الفكر الغربي الحديث:

يتحدث غروندان عن الدين عند مفكري الحداثة (ابتداء من القرن الخامس عشر). فنقدالدين، في كتابات هؤلاء، يأتي في إطار الصراع الذي دار بين الدين والعقل في القرونالوسطى. وتدريجياً، أخد هذا النقد حيزا كبيرا في كتابات المفكرين بفضل (أو بسبب) المعرفة التجريبية، حتى بلغ أنْ عُدَّ الدين معرفة هزيلة بالمقارنة مع العلم. ثم يعرضغروندان بعد ذلك إلى عدة فلاسفة تعرضوا بالنقد للدين، بدءا من سبينوزا الذي يقولبوجود نوعين من معرفة الله: معرفة عقلانية (يمنحها العقل الطبيعي)، وأخرى مستمَدّةمن الوحي (وهي بالطبع تاريخية).

ثم يأتي بعد ذلك إيمانويل كانط الذي يميز الدين التاريخي (وهو الدين الذي أتى بهالأنبياء) والدين العالمي (المستمد من القانون الأخلاقي). وقد أدى هذا بكانط إلى إحداثتمييز آخر بين نوعين من الدين: الثقافي الذي يبحث معتنقه عن مكافآت من الله عنطريق فعل الخير، والأخلاقي: الذي لا يستند إلا إلى حسن السيرة والسلوك من دونانتظار مقابل. وهذا النوع، الثاني، من الدين في نظر كانط هو الوحيد الذي يحبه الله.

كان إلحاق الدين بالأخلاق، من طرف كانط، محطّ انتقاد وجّهه إليه عالم اللاهوتالبروتستانتي الألماني شلايرماخ الذي رأى أنّ الدين لا يمكن أن يخضع للأخلاق،بدعوى أن هذه المسألة ستضر بالاثنين (الدين والأخلاق). فالأخلاق، في نظرشلايرماخر، لا تحتاج إلى الدين من أجل البقاء. ثم إن جعْل الدين تابعا للأخلاقسيفضي إلى تجاهل خصوصيته. والدين، عند عالم اللاهوت البروتستانتيشلايرماخر، جزء من كل، إنه بتعريفه: الميتافيزيقيا التي تسعى لتفسير العالم،والأخلاق التي تريد كماله، والدين الذي يسعى إلىحدْسه.

بعد ذلك، ونظراً إلى أن الأخلاق والدين عند كانط مقولتان مجردتان، حاول هيغل وشيلنج التفكير في مفهوم المطلق وإظهاره كمفهوم حقيقي وفعال، بغية رفع الدين الذييظلّ، رغم ذلك، في مرتبة أدنى من مرتبة الفلسفة ليغدو المثل الأعلى للإنسانية جمعاء،ويتحقق فعليا في العالم الذي يعيش فيه الإنسان.

وإذ ينتقل غروندان عقب ذلك إلى نقد الدين بعد هيغل نجد كيركيغارد يعترض علىالسيادة ـ التي أخدها المفهوم والفلسفة الهيغليان بإشكالية الوجود. هذه الإشكاليةالتي تبلورت بحدة (وتطرفٍ أحياناً) في القرن العشرين. هنا يشار، مثلاً، إلى كارلماركس الذي يرى في الدينأفيون الشعوب، وسيغموند فرويد الذي يرى فيه نوعا منالعصاب الجماعي. زِدْ على ذلك التيارات الفلسفية المستوحاة من الفلسفة الوضعيةوالتي أسقطت الدين من حساباتها، كوجودية سارتر، وتأويلية غادامر، وتفكيكية ديريدا

وينهي غروندان جولته الفلسفية هذه مع هايدغر الذي ناقش إشكالية الوجود من خلالقراءته كتابالمقدس لصاحبه عالم اللاهوت اللوثري رودولف أوتو. والمقدس عندهايدغر يظل غير مرجح الحدوث. أما الدين فهو في حد ذاته تخيل يقوم به العقل. ويختتم غروندان كتابه بجملة مثيرة للاهتمام، مفادها أن الدين يأتي ليعيد الفلسفة إلىفرضيتها الخاصة بها وهي الإحساس أو الإدراك أو المعنى).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق