مقالات
أميركا بين الفرص المواتية والفرص الضائعة
الدكتور الاعلامي أحمد حسن الشهري رئيس منتدى الخبرة السعودي
في كتابه ( الفرصة الثانية ) تحدث المفكر الإستراتيجي مستشار الأمن القومي لدى الرئيس الأمريكي جيمي كارتر والباحث في الدراسات الإستراتيجية الدولية زينغنيو بريجينسكي عن المستقبل الذي ينتظر الولايات المتحدة الأمريكية كقوة قائدة للعالم بعد تفكك الإتحاد السوفيتي وتفرد أمريكا بالساحة الدولية ولكنه ربط هذا التفرد والقيادة للعالم بكيفية إدارتها للسياسة الدولية إبتداء من العام 1990م والذي شهد أحداث عاتية عصفت بالعالم من تفكك الاتحاد السوفيتي وبروز دول جديدة تلعب دوراً في السياسة الدولية ودخول الولايات المتحدة الأمريكية في الحروب التي كانت حليفاً في بعضها مثل حرب تحرير الكويت وصانعة لبعضها مثل حرب احتلال العراق وتسليمه لإيران وما قبلها وما تبعها من أحداث ، رأى الكاتب أن الولايات المتحدة الأمريكية أمامها فرصة سانحة لتكون قائدة للعالم عندما تساءل عما إذا كانت أمريكا تمارس قيادتها الدولية بمسؤولية وفعالية أمراً حيوياً لا لأمن ورفاه الأمريكيين فحسب وإنما أيضاً للعالم على العموم، ولذا نراه يعارض احتلال الولايات المتحدة الأمريكية للعراق ويحذر من تداعيات ذلك ليس فقط على أمريكا ولكن على الأمن والسلم العالميين.
وقد أرَّخ في كتابه لثلاثة رؤساء أمريكيين هم : جورج بوش إتش دبليو بوش ، ووليام كلينتون وجورج دبليو بوش.
وطرح السؤال الكبير وهو هل تركوا العالم افضل مما كان عليه أم أسوأ والموقف الأمريكي في العالم اقوى أم أضعف ؟ ما هي الدروس الأساسية التي يجب إستقاؤها للمستقبل من أداء أمريكا في سنوات حكمهم؟.
ثم يواصل بريجنيسكي تساؤلاته قائلاً: على الأمريكيين أن يسألوا انفسهم إذا كان المجتمع الأمريكي يسترشد بالقيم ، وحكومته منتظمة بطريقة تتوافق مع القيادة العالمية بفعالية على المدى الطويل؟
وهل يفهم البلد اللحظة التاريخية التي يجب أن يتصرف فيها كزعيم للعالم؟ وما هي المبادئ الأساسية التي يجب أن تسترشد بها أمريكاً إذا كانت تريد أن تنجح في الوفاء برسالتها التاريخية؟
في هذه التساؤلات يعتقد بريجنيسكي أن أمام أمريكا فرصة مواتية لقيادة العالم وفق منظومة قيميّه يفترض أن تقرأها من خلال دروس الماضي واستشراف المستقبل ولم يكن يخفى بعض التحسر على الفرص الضائعة التي كان يمكن لأمريكا أن تكون أفضل مما هي عليه الآن وكأني به يتساءل من يصنع الرؤساء الأمريكيين؟ هل هو الناخب الأمريكي أم المجمعات الإنتخابية أم أن هناك قوة عميقة هي من يصنع هؤلاء الرؤساء وفق نسق سياسي ذو أبعاد استراتيجية وجيوسياسية حسب ظروف المرحلة وأنساقها المتشعبة.
من هذه القراءة لتساؤلات هذا المفكر الذي قدم الكثير من الرؤى والأفكار وعاصر وعايش كبار الساسة الأمريكيين ونظّر في الكثير من المراحل والقضايا الأمريكية وكان أشبه بالصندوق الأسود للساسة الأمريكيين خلال ما يزيد عن ستة عقود من الزمن نستشف أن قوة الولايات المتحدة الأمريكية وتأثيرها في المشهد الدولي ينطلق من تماسكها وإنسجامها القيمي الداخلي. لذا نراه يقول في كتابه ( الرؤية الاستراتيجية .. أمريكا وأزمة القوة العظمى) : إن قوة الولايات المتحدة في الخارج مهمة لإستقرار العالم لكن ذلك يعتمد على قدرة أمريكا على تعزيز التوافق الاجتماعي والإستقرار الديمقراطي داخل البلاد.
من هنا نستطيع تقييم مرحلة ما بعد الرؤساء الثلاثة وهي مرحلة أوباما وترامب هل استطاعت أمريكا أن تحافظ على قوتها في الخارج انطلاقاً من التوافق الإجتماعي والإستقرار الديموقراطي داخل البلاد؟
من يقرأ المشهد الأمريكي خلال مرحلة أوباماً وترامب يلحظ أن هناك انقسامات وشروخ حدثت في التوافق الاجتماعي والإستقرار الديموقراطي داخل البلاد من خلال ظهور الكثير من الخطابات الشعبوية والعزلة الإثنية يغذي هذا التوجه الإنقسام الحاد بين ساسة الحزبيين الرئيسيين ذوا الأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ وهما الحزبين الجمهوري والديموقراطي اللذان يقودان السلطة الأمريكية منذ قرون ومع مجيء أوباما للرئاسة زاد وضوح الإتجاه المغاير للنسق القيمي الأمريكي عندما تبنت إدارة أوباما سياسة دعم الفكر المؤدلج مثل دعم تنظيم الاخوان المسلمين ودعم نظام طهران الثيوقراطي ثم دعم ما يسمى بالفوضى الخلاقة والثورات العربية التي أهلكت الحرث والنسل وعززت بل أيقظت المزيد من الأصوات الشعبوية داخل المجتمع الأمريكي التي تعزف على اللون أو الدين أو الأصل وهذا في الواقع أوصل أمريكا إلى انتخابات 2020 إلى الوضع الذي شاهده العالم، فبعد أن كان الوصول للبيت الأبيض يمر عبر سياسة خارجية متزنة تسعى للحفاظ على الأمن والسلم العالميين وكبح جماح الإرهاب والتطرف والدول المارقة والفكر المؤدلج وسياسة داخلية تقوم على العدالة الإجتماعية والتنمية ومزيد من توفير فرص الشغل والوظائف ودعم الصحة والتعليم رأينا في انتخابات 2016 و 2020م ما أسميه بانتخابات ( نشر الغسيل) لمرشحي الرئاسة ونوابهم ، وفتح الملفات وكشف المستور مما جعل الناخب الأمريكي يقف حائراً أمام هؤلاء المرشحين الذين أظهروا أنفسهم أمام الملأ ما بين متهرب من الضرائب أو متلقي لأموال من الخارج أو مزور في الانتخابات أو ساعٍ لإضعاف أمريكا وغيرها من التهم والشتائم والسباب التي شاهدها واستمع لها العالم في المناظرات المتلفزة أو عبر الخطابات المباشرة للجمهور .
وهنا ي للمراقب والمتابع للشأن الأمريكي ومزاج الناخب الأمريكي أنه مع نهاية فترة الرئيس رونالد ريغان في 20 يناير 1989م برزت مظاهر وقيم جديدة في الانتخابات الأمريكية ولعلها إتضحت جلياً في فترة أوباما وترامب والتي جعلت الخيار للناخب الأمريكي ليس بين المفضّل والأفضل بل بين غير المفضّل وغير الأفضل، أو كما في المثل العربي
( أمران أحلاهما مر).
وهذا بلا شك يتطلب قراءات جديدة إستشرافية للسياسات الأمريكية المستقبلية وتأثيرها على الداخل الأمريكي الذي يعاني من إحتقانات متزايدة بين البيض والسود المهاجرين من أصول أفريقية أو آفروأسيوية في ظل سوق مفتوح للسلاح قدّره أحد الخبراء بـ 600 مليون قطعة سلاح في يد الشعب الأمريكي، وهذا بلا شك يلقي بظلاله على مستقبل أمريكا إذا إستمر هذا الشحن الشعبوي غير المستنير، أعتقد أن عودة الرؤساء الخبراء الحكماء الذين يسترشدون بالساسة الأمريكيين ذوي الحكمة والرأي المستنير كفيل بإعادة تصويب المسار وتوجيه البوصلة لعودة الديمقراطية المستنيرة للولايات المتحدة والتوافق الإجتماعي والديموقراطي الذي تحدث عنه المفكر بريجنيسكي، والذي يعد الركيزة لإنطلاق أمريكا نحو ممارسة دور فاعل في التوازنات الدولية وبسط الأمن والسلم العالميين وقد يكون أمامها الكثير من الفرص المواتية لتعويض الفرص الضائعة.