زاوية الاقتصاد

بانسحابه من ألمانيا.. هل يسدّد ترامب الضربة القاضية لحلف الناتو؟

هل يستطيع الأوروبيون أن يتَّحِدوا في وجه الولايات المتحدة الأميركية معلنين انسحابهم من الناتو ومن التزاماته المكلفة وإلغاء الاشتباك التاريخي مع روسيا؟

  • خطوة الانسحاب الأميركي من ألمانيا أتى بعد انسحاب موسكو وواشنطن من معاهدة خفض الصواريخ
    خطوة الانسحاب الأميركي من ألمانيا أتى بعد انسحاب موسكو وواشنطن من معاهدة خفض الصواريخ

لم يكن مفاجئاً قرار الرئيس دونالد ترامب سحب حوالى 12 ألف جندي أميركي من ألمانيا، والذي وصِف أميركياً “بإعادة انتشار استراتيجي، لكونه سيساهم في تحقيق المبادئ الأساسية لتعزيز الردع لدى الولايات المتحدة وأوروبا ضدّ روسيا”، فالخطوة كانت منتظرة منذ تصويب الرئيس الأميركي على الأعضاء الأوروبيين في الناتو، وخصوصاً ألمانيا وفرنسا، لدفعهم نحو تحمّل مساهمة أكبر في موازنة حلف شمال الأطلسي، وذلك في مؤتمر الأمن في ميونخ، والّذي عُقد في شباط/فبراير من العام الماضي، لبحث الإجراءات الكفيلة بحماية الاتحاد الأوروبي، ولإبعاد الخطر عنه.

من جهة أخرى، كانت صحيفة “الغارديان” البريطانية قد أشارت إلى أنَّ القرار الأميركي حول الانسحاب من ألمانيا يأتي بعد يوم واحد من تصريحات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي انتقدت “أسلوب ترامب المثير للجدل” في إدارة أزمة الاحتجاجات التي تشهدها الولايات المتحدة إثر مقتل الشاب جورج فلويد.

من هنا، يمكن استنتاج التناقض والخلاف المبطّن بين الأميركيين من جهة، والفاعلين من الدول الأوروبية، من أعضاء الناتو أو أعضاء الاتحاد الأوروبي، من جهة أخرى، وذلك حين يكون الانسحاب، بحسب الرواية الأميركية، بهدف تعزيز الردع لدى الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا ضد روسيا، وليكون الانسحاب عملياً، إضافةً إلى كونه رداً على تصريحات المستشارة الألمانية بحقّ الرئيس ترامب، فهو جاء أيضاً بمثابة عقاب أميركي (ترامبي) للأوروبيين الذين تمنَّعوا عن المساهمة المالية في موازنة الحلف الأقدم بعد الحرب العالمية الثانية، حيث إنَّ فكرة حلف الناتو الذي تأسَّس في العام 1949، كانت في الأساس لحماية أوروبا، بناء على معاهدة شمال الأطلسي التي وقِّعت في واشنطن في العام نفسه، وذلك من خلال تكليف الحلف بمهمة الدفاع عن أوروبا الغربية ضد الاتحاد السوفياتي والدول المشكّلة لحلف وارسو آنذاك في سياق الحرب الباردة.

في الواقع، تأتي خطوة الانسحاب الأميركي من ألمانيا بعد انسحاب روسيا والولايات المتحدة الأميركية – منذ فترة غير بعيدة – من معاهدة خفض الصواريخ، وبعد إطلاق صفارة البداية لعودة سباق التسلح، وحيث ظهر واضحاً الخوف الأوروبي من تداعيات العودة إلى هذا السباق الخطر وإلى الحرب الباردة، وخصوصاً أن معاهدة خفض الصواريخ التي “انتهت مبدئياً” كانت لحماية أوروبا، لأنها تتعلق بالصواريخ بين 500 و5500 كلم، أي عملياً من أوروبا وعليها.

الأهمّ كان في نتائج مؤتمر الأمن الأوروبي في ميونخ العام الماضي، كونه تمحور حول نقطتين بالغتي الحساسية، أثارهما حينها الرئيس الأميركي دونالد ترامب عبر نائبه مايك بنس، الأولى أنَّ على الأوروبيين، أو عملياً على أعضاء الناتو من الدول الأوروبية، الدفع وزيادة نسبة تمويلهم في موازنة حلف شمال الأطلسي، والنقطة الثانية، وهي الأكثر صراحة وقسوة عليهم، تتمثّل في أنّ عليهم السير بركاب واشنطن، والانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، والانخراط في مناورة مواجهة الأخيرة ومعاقبتها اقتصادياً.

بالنسبة إلى التمويل، صحيح أنَّ الأميركيين يدفعون أكبر نسبة في موازنة الناتو (حلف شمال الأطلسي)، والتي تبلغ عملياً حوالى 3،5% من موازنة الدولة للإنفاق العسكري، مقابل 2% تدفعها كل دولة عضو في الحلف من الأوروبيين، وحيث إنّ الولايات المتحدة الأميركية زادت موازنتها العسكرية مؤخراً على عكس الدول الأوروبية، من هنا ظهر هذا الفارق في الالتزام المالي بين الأميركيين والأعضاء الأوروبيين، والذي دفع بالرئيس ترامب إلى إثارته والتصويب عليه.

صحيح أيضاً أنَّ الأوروبيين لم يجاروا الرئيس ترامب في انسحابه من الاتفاق النووي مع إيران، بل حاولوا مساعدتها على مواجهة العقوبات، من خلال متابعة استيراد نفطها، ومحاولة العمل ضمن آلية مالية خاصة مشتركة مع طهران لتجاوز القيود الأميركية، وهذا أيضاً يمكن أن يكون مبرراً لهجمة الرئيس ترامب على كل من فرنسا وألمانيا، وسبباً رئيساً لاستيائه واتخاذه موقفاً متشدداً من الأعضاء الأوروبيين في الناتو، ولكن في الحقيقة، توجد الكثير من المعطيات التي لا تبرر للرئيس الأميركي هذا الموقف المتشدد من الأوروبيين، وهي:

إنَّ الناتو خلقته الولايات المتحدة أساساً لمواجهة الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة، ولزرع التوتر الاقتصادي والسياسي والأمني والعسكري في أوروبا، التي لم تكن دولها في الأساس في صدد مواجهة الاتحاد السوفياتي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بل إنّ الأميركيين هم الذين خلقوا هذه المواجهة والعداء، لأسباب تتعلق باستراتيجيتهم للتوسع، وزرع نقاط ارتكاز، ونشر قواعد عسكرية وجوّية. وهنا الفكرة الرئيسية التي يجب على الجميع العمل ضمنها:

أولاً: لناحية تمويل الناتو، حتى لو كان في أساسه وفي أغلبه أميركي المصدر، فهو خدمة لاستراتيجية الأميركيين وقرارهم. وربما لو خُيَّرت أوروبا ودولها لما واجهت الاتحاد السوفياتي أو روسيا اليوم.

ثانياً: لقد رأى الأوروبيون أن مصلحتهم الاقتصادية والاستراتيجية تكمن في عدم الانسحاب من الاتفاق النووي، وفي عدم نقض تعهداتهم مع إيران ومع المجتمع الدولي، وخصوصاً أن لهم مصلحة اقتصادية ومالية مهمة في المحافظة على علاقات طبيعية مع إيران.

ثالثاً: يرى بعض الأوروبيين حالياً، ودائماً ما نتكلم عن فرنسا وألمانيا بشكل خاص، أنَّ من غير المناسب أن يستمروا في موقع التابع للولايات المتحدة الأميركية، إذ إن الأخيرة لم تكن تحميهم اقتصادياً، وما اتخذته وتتخذه إدارة ترامب مؤخراً، لناحية الاشتباك الحساس مع أوروبا، ومع الجميع إجمالاً، في موضوع كورونا، وما تتخذه هذه الإدارة دائماً في موضوع الضغوط الاقتصادية على الأوروبيين، كفيل بدفعهم إلى اتخاذ مواقف متشددة تجاه واشنطن، إذا استطاعوا ذلك.

من هنا كان التشدد الأميركي لناحية وجوب زيادة التمويل الأوروبي للناتو، وأيضاً لناحية الاستياء من الموقف الأوروبي من الانسحاب من الاتفاق مع إيران، ولكي يزداد الضغط الأميركي بعد الانسحاب من معاهدة خفض الصواريخ، ودفع الساحة الدولية، وخصوصاً الأوروبية، إلى سباق تسلح خطير ومحموم، وليضاف إلى كل ذلك، الانسحاب الأميركي من ألمانيا، مع ما قد يحمله ذلك من تداعيات استراتيجية على الدول الأوروبية بشكل عام.

فهل يستطيع الأوروبيون اليوم الوقوف بموقف الدول القوية بعد أن يتَّحِدوا في وجه الولايات المتحدة الأميركية، معلنين انسحابهم من الناتو ومن التزاماته المكلفة، وعملياً تفكيكه، وإلغاء الاشتباك التاريخي مع روسيا، والخروج نهائياً من حضن الولايات المتحدة الأميركية، أو أن الأخيرة، وكعادتها، ستناور من خلال إغراء البعض، وتخويف البعض الآخر، وزرع الشقاق بين تلك الدول، فيكون الثمن تفكيك الاتحاد الأوروبي وشرذمة دوله، وهو الذي يقوم عملياً بشكل كبير على دولتين رئيستين: فرنسا وألمانيا؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق