مكتبة الأدب العربي و العالمي

معركة ملاذ كرد

لعل في معركة ملاذ كرد التي وقعت في رمضان سنة(463هـ -1071م) بين المسلمين ممثلين في دولة السلاجقة، وبين الإمبراطورية الرومية في قسمها الشرقي – ما يؤكد ذلك الصراع المحتدم حتى الآن.

وملاذ كرد أو مناز جرد بلدة حصينة من بلاد آسيا الصغري ( تركيا) على فرع نهر مرادس أشبه شيء بالقسطنطينية.

🔹ومعركة ملاذ كرد -كما تروي الأدبيات التاريخية الإسلامية- بدأت بمغامرة تصور فيها رومانوس قائد الروم أنه قادر على تحرير أراضي روما الشرقية من سلطان الدولة السلجوقية التي امتدَّ سلطان الإسلام الروحي بفضلها على ربوع بلدان الإمبراطورية الرومية الشرقية، فحشد ما يقرب من 100.000 أو 200.000 حسب الرواية الإسلامية.

🔹قال ابن كثير مُتحدثًا عن هذه الوقعة:
“وفيها أقبل ملك الروم أرمانوس في جحافل أمثال الجبال من الروم والرخ والفرنج، وعدد عظيم وعُدد، ومعه خمسة وثلاثون ألفاً من البطارقة، ومعه مائتا ألف فارس، ومعه من الفرنج خمسة وثلاثون ألفاً،
ومن الغزاة الذين يسكنون القسطنطينية خمسة عشر ألفاً، ومعه مائة ألف نقّاب وخفار، وألف روزجاري، ومعه أربعمائة عجلة تحمل النعال والمسامير، وألف عجلة تحمل السلاح والسروج والغرادات والمناجيق، منها منجنيق عدة ألف ومائتا رجل”.

🔹يقف عقلك عندما تعلم أن السلطان “ألب أرسلان” ألتقاه وجيشه وعددهم يقترب من عشرين ألف! التقاه السلطان بعد أن سلَّم أمره إلى ربه ودعاه وأخذ بالأسباب فأخذ بقول الفقيه “أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري” فكان وقت الوقعة يوم الجمعة حيث يكون الخطباء على المنابر في المساجد يدعون للمجاهدين،

فلما حان هذا الوقت التقى الفريقان، فريق يقاتل لأجل أن تكون كلمة الله هي العليا، وفريق يقاتل دين الله ويحاربه أن يحكم في أرضه والمسلمين، التقت الفئتان في مكان يُسمّى الزهوة بشهر ذي القعدة.

🔹واستطاع ألب أرسلان أن يخطف المبادرة بضربة حققت له تقدمًا أوليًّا في المعركة، غير أن ألب أرسلان على الرغم من طلائع النصر التي بدأت في الظهور ظلَّ جزعًا خائفًا من تفوق الروم عددًا وعدةً؛

مما دعاه إلى طلب الهدنة التي رفضها أرمانوس، وفَهِم منها خوف المسلمين وتهيبهم لقاءَه، فردّ عليه ردًّا يحمل قدرًا من السخرية والاستعلاء، ❗

فقرر السلطان المضيَّ في المعركة، فصلَّى بجنده ظهر الجمعة، وبكَى وخضع خشوعًا وتأثرًا، ولبس البياض، وتحنَّط الجنود استعدادًا للموت في المعركة، فجاهد مكفَّنًا حتى أظفره الله تعالى على عدوِّه، وأُسر أرمانوس الذي تكبَّر على المسلمين، وسخر منهم عند طلب الهدنة.

🔹وفي هذه المعركة تتجلَّى أمور كثيرة، أهمها: أنه لا يصح التردد لحظةً في دفع صائلة العدو المتقدم نحو ديار المسلمين بأية وسيلة؛ حمايةً لبلدان الإسلام، وحمايةً لدماء المسلمين وإعراضهم،

ويكون الدفاع إذن فرضَ عين لا مجالَ للنكول عنه، وهو الأمر الذي قام به ألب أرسلان عندما رفض العدوُّ الهدنةَ التي عرضت عليه، فاستعان المسلمون بالله سبحانه وتعالى، ولم يرعَوا جانب أنهم أقل عددًا وأضعف جندًا، ولم يؤثِّر ذلك في اختيار توقيت المعركة وهو يوم الجمعة،

🔹وفي تفسير ذلك يقول ابن كثير في البداية والنهاية 16/26:

“وخاف من كثرة المشركين، فأشار عليه الفقيه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري بأن يكون وقت الوقعة يوم الجمعة بعد الزوال (بعد الظهر) حين يكون الخطباء يدعون للمجاهدين، فلما كانت المواجهة نزل السلطان عن فرسه وسجد لله عز وجل ومرَّغ وجهَه في التراب، ودعا الله واستنصره، فكان نصر الله تعالى”.

في جنس الخبر تتضح ملازمة النظر العباديّ لعمليات الجهاد، أيًّا كان جنس المجاهدين المسلمين، عربًا أو غير عرب، ثم تأمل استشارته للعلماء والفقهاء، التي طالما جلبت إلى الحضارة الإسلامية كل خير، ولم تغِب إلا وغاب معها كثير من الخير الذي كان.
——————–
🔹لم يكن المجاهدون المسلمون يريدون الاستطالة بمعاركهم في الأرض، أو التكبر وتكوين الإمبراطوريات، يظهر ذلك في مشهد الذلة الرائع الذي صنعه سلطان المسلمين عندما نزل عن فرسه ومرَّغ وجهه في التراب؛ إعلانًا منه أنه متذلل لله سبحانه، عابد طائع له.

وإضافةً إلى ذلك استطاع الإسلام أن يؤسس أخلاق التسامح في كل الأجناس التي انتمت إليه، فعلى الرغم من شهرة الترك والتتر والسلاجقة العسكرية وقوتهم المادية التي دأب على تصويرها الغرب الصليبي،

فإن مشهد أسر أرمانوس بين يدي الملك ألب أرسلان يدلك دلالة قاطعةً على تملُّك فضيلة التسامح في نفس المجاهدين المسلمين؛

😐حيث تحكي كتب التاريخ أنه لما وقف أرمانوس بين يدي الملك ألب أرسلان قال له: لو كنت أنا الأسير بين يديك، ماذا كنت تفعل؟ قال: كل قبيح. ❗

قال: فما ظنك بي؟
قال: تقتلني أوتشهرني في بلادك. والثالثة بعيدة: العفو وقبول الفداء،

قال السلطان: ما عزمتُ على غيرها.❗

فعفا عنه الملك.. هذا الموقف السامي يحمل في طياته أكبرَ ردٍّ على مَن يتهمون حركة الفتوحات وينالون منها.

🔹واشترى أرمانوس نفسه بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار، وإطلاق كلِّ أسيرٍ في بلاده. لم يقف عفو السلطان “ألب أرسلان” عند حد الفداء، ولكنه أيضًا بعثَ معه عدَّة وأعطاه نفقةً توصله إلى مكانه.

❗مصير أرمانوس❗

بادر الروم وملّكوا ملكًا آخر غير هذا الملك المهزوم، فما كان من “أرمانوس” عندما شعر بزوال ملكه إلا أن لبس الصوف، وترهّب، ثم جمع ما وصلت يده إليه، وكان نحو ثلاثمائة ألف دينار، فبعث بها، واعتذر،
وقيل: إنه غلب على ثغور الأرمن.

🔹وأما عن القسطنطينية فعندما وصلت أخبار الهزيمة إليها قال رعاياه: إنه سقط من عداد الملوك. حتى أنهم أزالوا اسمه من سجلات الملك، وعُيِّن ميخائيل السابع إمبراطورًا. وفي رواية أخرى أنهم ألقوا عليه القبض، وسملوا عينيه لتلك الهزيمة الساحقة المنكرة.

🔹لقد كان الجهاد عند المسلمين عبادةً، ولم يكن في يوم من الأيام استطالةً على أحد باسم القوّة، ملكوا فسامحوا؛ لأنهم كانوا يسيرون باسم الله حقًّا، يريدون إسعاد الخلق بدلالتهم على ربهم .

Nejla CH

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق