نشاطات

شعرية العنونة والرمز الأسطوري في ديوان نيرفانا أ.د. أحمد جبر شعث

 تتجلى العلاقة بين العنوان ونصه في كونه كالرأس للجسد, كما شبهه بعض النقاد السيميولوجييين في تمثيل رائع يشير إلى علاقة الاتصال والانفصال بينهما والعالم الخاص لكل منهما الذي يوصف بأنه غامض ومعقد في آن. والعنوان في ذاته يمثل مرسلة مختزلة للنص يتناسل منها طرفان لا غنى عنهما: المرسل والمرسل إليه. يقول الصديق الناقد والعالم المرموق الدكتور/ محمد فكري الجزار في كتابه الرائد : (العنوان وسيموطيقا الاتصال الأدبي):

 

إن العنوان يعد نصاً نوعياً له علاقة اتصال وانفصال بالنص الذي يسمه , فإذا كان النص يمثل علامة لغوية كاملة , فإن العنوان يمثل علامة لغوية أخرى. ولما كان النص بمثابة المولود فإن العنوان كما ينظر إليه في النقد السيمولوجي هو المولد الفعلي لتشابكات النص وأبعاده الفكرية أو الأيديلوجية. نستحضر هذه المعرفة بين العنوان ونصه في ديوان نيرفانا. وعلى هذا المستوى يتوفر الديوان على خمسة عشر عنواناً للقصائد جميعها, وعلى عشر عناوين فرعية في قصيدتين من القصائد. ويمكن الاشتغال على هذه العناوين بتصنيفها على مستويين: الإفرادي والتركيبي وفقاً لما يلي: أولاً: العنوان المفرد: وهو العنوان في إطار البنية السطحية لجسد اللغة. والكلمة بوجه عام لا تكتمل فائدة الدلالة فيها إلا مع التأويل. وقد تشكلت هذه العناوين في أربع مفردات هي:

1- نيرفانا

2- ولادة

3- سلام

4- صحوة ونضرب أمثلة لذلك: العنوان الأكثر أهمية هو: نيرفانا, وهذه الكلمة مفردة أعجمية تنتمي إلى اللغة السنسكريتية أي الهندية القديمة ومعناها كما يقال السعادة القصوى. ويقال في معنى المفردة أنها حالة الإنطفاء الكامل التي يصل إليها الإنسان بعد فترة طويلة من التأمل, فلا يشعر بالمؤثرات الخارجية المحيطة به, أي يصبح منفصلاً تماماً بذهنه وحسه عن العالم الخارجي. والهدف من ذلك هو شحن طاقات الروح من أجل تحقيق النشوة والسعادة وقتل الشهوات, ليبتعد عن المشاعر السلبية

( معجم ديانات وأساطير العالم د. إمام عبد الفتاح إمام- مكتبة مدبول). وعلى المستوى التركيبي فإن هذا العنوان (نيرفانا)

يمكن النظر فيه على أساس أنه جملة اسمية تقع مفردة نيرفانا فيها خبراً متمماً للفائدة أو المعنى حذف منها المبتدأ الذي يُقَّدَر بأنه اسم اشارة (هذه أو تلك) أو ما شابه ذلك. وهو ما يكاد ينطبق على العنوانات الأخرى المشابهه. المستوى السياقي: وهذا يتسع مداه إلى البنية العميقة وينطلق من البنية السطحية في القصيدة, وقد يتسع هذا الاشتمال إلى الحقل الشعري المعاصر. أما على مستوى القصيدة فقد شكلت نيرفانا دلالاتها في مواضع مختلفة من القصيدة الموقع الأول :

 

ص 12

الديوان نيرفانا أحياكِ غريباً حتى الموتِ ها يغرِقُني زمنٌ الشَجّنِ الشمسيّْ فالدلالة تدور كما يبدو حول الحالة الإنسانية المتمثلة في الشعور الحاد بالغربة والحزن والموت فقد تحولت نيرفانا انفصالاً وابتعدت عن الاتحاد بالروح.

الموقع الثاني: يقول الشاعر: ص 21 نيرفانا يا روحاً تٌشرِق في قمّة أحتاجٌكِ لا حٌضنَ حنانِ يجمعٌني أشلائي تتأَهبٌ تحولت نيرفانا هُنا إلى روح كونية وضرورة حتمية للقضاء على حالة الفقد والعزلة واليباب, وهي حالة مختلفة عن السياق الأول وامتدادٌ له. الموقع الثالث: ص 29 نيرفانا يا روحاً تطحنُها نوءُ الحربِ ها يسكُنُني منكِ سلامُ ها أتدفقُ تعصرُني الآلامُ سأشقُ غبارَ الدربِ

يحاول الشاعر أن يجعل نيرفانا مخلصاً من العذاب, وإن كانت لا تَهبُ القدرةَ لذلك, ولكنها تَهِب السلام الذي يحاول التخفيف من حالة العُسر والضيق واجتياح الموت. الموقع الأخير : ص 30 نيرفانا.. نيرفانا ها أُبصرُ ما كوني يا أنتِ إني أنتِ وأنتِ سُلافةُ كوني يا أنتِ يا أبهى خفقاتِ الخلقِ يفيضُ على الدنيا لحناً.. عربياً.. صوفياً تُنشِدهُ الأيام تكتمل رؤية الشاعر بحيث تغدو أملاً يُبدد سُحب الظلام ويُوَحِّد الفرد في الجماعة عبر آلام رياضات الروح الصوفية لتتجسد الوحدة وتتعانق فيها الأنا الفردية بالجماعة, وعلى هذا الأساس يمكن فهم رؤية الشاعر لتوظيف نيرفانا البوذية وتطويعها من أجل دلالة يتغياها الشاعر في إحدى تجلياته التي تنطلق من الخاص إلى العام أو الالتحام بالإنساني العام لتحقيق الذات. العنوان المركب وهو العنوان التام الأركان ظاهرياً, حيث تتجسد فيه اللغة في عرفها المعياري وقواعدها التركيبية. وهذه العناوين إما ان تكون جملة اسمية أو فعلية. والتركيب الاسمي جاء في العناوين الآتية: 1- ست ترنيمات على إيقاع الموت وعناوينها الفرعية:

الحرب- رعب- الصاروخ- الطلق- البيت- شهيد

2- هذا الانسان

3- على قارعة الليل

4- ظلال الشك

5- كأن وصلكِ مستحيل

6- للقلب مرفأهُ الوحيد

7- أغنيات أربع للحنين

: وعناوينها الفرعية: عشتار- إقفار- استحار- قرار. يمكن النظر إلى العنوان الأول والرابع والسابع على أساس تقدير المحذوف بتأويلهِ إلى اسم الإشارة ( هذه على وجه التقريب). أما الثاني فيتطلب تأويلاً لإتمام الخبر حيث ورد في متن القصيدة قول الشاعر ص53: هذا الانسانُ قبسٌ من روحِ إلهْ حيث تقع قَبَسٌ خبر لاسم الإشارة في أحد الوجوه, بينما نجد العنوان الثالث يُركب على أساس شبه الجملة ويحتاج إلى نمط آخر من التأويل وفقا لحالة المتلقي فمثلا يمكن أن يُعد على نحو هُنا على قارعة الطريق أو هناك أو أنا على قارعة الطريق. أما العنوان الخامس الذي يبدأ بكأن لإثارة الشك والريبة, ومن المعروف أن كأن تدخل على الجملة الاسمية. و أما العنوان السادس فيقلب

التركيب الاسمي على أساس أن شبه الجملة في محل خبر مقدم ومرفأهُ مبتدأ مؤخر. أما الجملة الفعلية فقد شُكلت في أربعة عناوين هي:

1- كفى انتظار

2- أموت غرقاً

3- ماذا يُغني ليلُنا

4- كفى وهذه كما يبدو تشتغل على الزمن وتؤسس المخالفة مع استراتيجية الجملة الاسمية. العنوان الأول: كفى انتظار:

هو جملة شعرية أُستُلت من متن القصيدة لذلك كانت مخالفةً للتركيب المعياري لضرورة انتمائها إلى تفعيلة الكامل ( متفاعلن) التي أصابها زحاف الوقص والموقوص ما سقط ثانيه بعد سكونه وهو مفاعلن في الكامل. والمقطع هو كالآتي: كفى انتظارْ /

/ o // oo مفاعلن ( موقص) بُحَّتْ حناجرُ رعدنا بحتحنا/ جررعدنا /

o /o//o ///o//o مستفعلن متفاعلن (مضمر) (سالم) طالَ المسارْ /

o/o//o مستفعلن (مضمر) الاضمار تسكين الثاني من متفاعلن فتنقل إلى مستفعلن الرمز الأسطوري تجلى هذا الرمز في طائفة من الرموز القديمة للدلالة على تأثير الميثولوجيا والتراث الأسطوري بوجه عام, والوصول إلى تجليات هذه الرمز للدلالة المعاصرة لا بد من معرفة ما تمثله في الفكر الانساني في منطقة البحر المتوسط والعالم, حيث نجد أكثر الرموز تأثيراً في الفكر الانساني القديم هذه الثنائيات:

1- قيبالا و أتيس انتشرت في آسيا الصغرى

2- عشتار و تموز البابلية

3- عنات و إيل الفينيقية

4- إيزيس و أوزوريس الفرعونية وهي جميعاً رموز تُجسد رؤية كونية لمعاني الحياة والخصب والنماء والديمومة ضد الموت والفناء والدمار.

وإذا ما نظرنا إلى شبكة العلاقات في البنية الأسطورية نجد أنكيدو و جلجامش الملحمة العربية الكبرى. يقول الشاعر:

ص 12

أنكيدو.. أنكيدو هيا فلتأوِ إليها يا من ستصارُ إليهِ أنسابُ البشرِ انكيدو: هو الصديق الحميم لملك أوروك جلجامش رمز البحث عن الخلود بعدما صُدم بموت صديقه الحميم أنكيدو: يقول الشاعر

ص 11

سأجرد أمري من سحر جنون العصرِ أصورُ في البال جمال البدءِ الأسطوريْ يجبلُ من شريان النهرِ الأبديْ إطلالةَ سحرٍ للأمّ الأولى تغوي رجل الغابِ إذا كانت حواء في بعض الأشعار رمز الإغواء أو التضليل فإن سيدوري الغانية صاحبة الحانة تحلُ هنا في المشهد محل عشتار الأم الكبرى, أما رجل الغاب فهو جلجامش والمرأة التي أغوته هي

سيدوري. ( ملحمة جلجامش ترجمها عن الأكدية وعلق عليها د. سامي سعيد الأحمد, بيروت, دار الجيل, بغداد, دار التربية, 1984, ص :436-464) ووردت عشتار في قول الشاعر ص 28 لا كون لديك منسياً كالبعل على بوابة عشتار تهيمُ يا هذا لا كون لديك بغض النظر عن اقتران المخاطب وتشبيه حالته بالبعل وتخيُل عشتار فإن البعل هو ابن إيل المقترن بعنات وليس بعشتار, ويعرف بأنه إله الشؤم وعشتار معروفة بإقترانها بتموز وهي رمز الخصب والنماء. وإذا فالمقطع يثير حالة الفقد

 

والشؤم والضياع.

و يقول الشاعر

ص 53

أقداسُ الروحِ بلا عشتارَ قفارُ تمتدُ ويقول في الموضع الثالث لورود عشتار ص 88 أيُ سرٍ سوف يطويه المحارُ؟ حينَ تغتالُ سيوفُ الحقدِ عشتاري فعلى عكس الحكاية الإسطورية, عشتار تُغتال بينما الحكاية تؤكد اغتيال تموز على قرنيّ خنزيرٍ بري, وكأن عشتار الشاعر هي حبيبته. أما أفروديت التي تقابل عشتار عند اليونانيين فقد جاءت في قول الشاعر ص81 ستهلُّ أفروديتُ أجملَ من صباحاتِ النّدى إن استحضار الرمز الأسطوري أو المواقف المنتمية إلى حكاياتها بالإشارة أو الالماعة ليس غاية في ذاته وإنما يكونُ توظيفهُ ذا دلالاتِ معاصرة أو جديدة ترتبط بموقف جديد يريد الشاعر جعله محور البنية الدلالية في قصيدته لتكون مؤثرة في الفكر والوجدان.

مقالات ذات صلة

إغلاق