مكتبة الأدب العربي و العالمي
الحب الحقيقي قصة مليبارية ترجمها أ.د.عبد الحفيظ الندوي

كان الليل يلفُّ القرية بعباءته السوداء، حين سُمع صوت غريب خلف باب الأستاذ:
«أستاذي.. أما نمت؟
إن لم يكن في الأمر مشقّة، فافتح الباب قليلًا».
تردّد الصوت كأنما يخرج من أعماق بعيدة، لم يألفها الأستاذ من قبل.
وكان قد أوصد الباب، وأطفأ المصباح، واستسلم لفراشه، حين دوّت ثلاث طرقات متتابعة، يتبعها الصوت ذاته.
نهض متردّدًا، أشعل الضوء، فتح الباب على مهل.. فإذا برجل أشيب اللحية ينتظره.
سأله الأستاذ بلهجة حذرة:
«مَن أنت؟»
فأجابه بصوت متهدّج:
«اسمي عبد الرحمن.. كنتُ يومًا من أهل هذا البلد».
دعاه الأستاذ إلى الداخل، فأبى:
«لا وقت لديّ، إنما جئتُ أطلب خدمة واحدة».
هنالك لمح الأستاذ في عينيه بحيرةً غائرة، تحيطها حمرة متوهجة كأنها جمر مكتوم.
قال: «وما حاجتك؟»
قال الرجل بعد تردّد قصير:
«اليوم وُوريت رُقيّة في هذا التراب.. دلّني على قبرها».
وغلبه البكاء، فانحدرت دمعتان أطفأتا نار عينيه لحظةً ثم عادتا تتوهّجان.
توجّس الأستاذ وقال:
«مَن تكون لك رُقيّة؟
ثم كيف تذهب في هذا الوقت؟ المقبرة موحشة، تسكنها الأفاعي والعقارب وأرواح لا يعلمها إلا الله.. ألا تنتظر حتى الصباح؟»
هزّ الرجل رأسه، وأجاب بإصرار:
«لا شأن لك، دلّني فقط».
تأمل الأستاذ ملامحه، ثم قال على مضض:
«سرْ مستقيمًا، ستجد في أقصى الصف قبرًا جديدًا، هو قبرها.. فاحذر».
وما إن أشار بيده حتى انطلق الرجل نحو الظلام، خطاه ثابتة، لا يهاب وحشة الليل ولا صمته.
هزّ المشهد قلب الأستاذ، فحمل مصباحًا، والتحف وشاحه، ولحق به.
قال: «دعني أرافقك، فالليل غادر، وقد أبصرتُ أمس كلبًا أسود على ضفة الترعة».
فسارا معًا، الأستاذ في المقدمة، والرجل يتبعه في صمت كمن يمشي في حلم قديم.
سأله الأستاذ ليكسر الصمت:
«مَن تكون لك رُقيّة؟ أراك أول مرة».
لكن الرجل ظلّ مأخوذًا إلى عالم آخر، لا يسمع ولا يجيب.
ولمّا بلغا القبر، هوى الرجل على التراب، وانفجر في بكاء مدوٍّ اخترق صمت المقبرة، فارتجفت له الطيور والحشرات ودواب الليل.
ثم انحنى، قبض على حفنة من التراب، ضمّها إلى صدره، قبّلها بحرارة، وأودعها جيبه.
وقف الأستاذ مشدوهًا، والرهبة تتسلل إلى قلبه: أهو مجنون؟ أهو ممسوس؟
اقترب منه وقال: «هيا بنا نعود».
فانصاع، وإن بدا أنه يمشي مثقلًا بظلّ قديم لا ينفك عنه.
وعند باب الغرفة توقّف، التفت إلى الأستاذ بعينين مغرورقتين وقال:
«سألتني: مَن تكون لي رُقيّة؟ إنها حياتي كلّها..
أنا من عقدتُ عليها أول مرة، لكني لم أملك منها إلا الجسد.. أما القلب فقد هرب إلى محمود.
وحين علمتُ، تركتُها له. فنبذني الأهل والناس والمسجد، اتهموني بالعار».
صُدم الأستاذ وقال:
«إذن محمود هو الذي تزوّجها بعدك؟»
لم يردّ الرجل، بل انصرف بضع خطوات، ثم توقّف فجأة وعاد يقول بصوت مختنق:
«لو علمتُ أن محمودًا سيغرقها في كأسه ويعذّبها بطيشه، ما تركتها له يومًا.
لكن ماذا أقول؟ ذلك قَدَرها..
أرجوك يا أستاذ، ادعُ لها.. فقد قضت عمرها تمشي فوق دموعها..
ادعُ لروحها أن تجد في قبرها ما لم تجده في حياتها من راحة».
قبض على يدي الأستاذ، ضغطهما بمرارة، ثم أدار ظهره ومضى..
عاد الأستاذ إلى فراشه، ألقى جسده المنهك، لكنه لم يذق النوم.
ظلّ يحدّق في السقف، يستعيد وجه الرجل وكلماته، ويرى صورة رُقيّة التي طالما سمع عنها: امرأة لم تعرف الحنان، ولم تُقدّر كما ينبغي، وألقي بها إلى رجل لا يعرف قدر الذهب إن وقع بين يديه.
غلبه النوم عند الفجر، لكنه سرعان ما هبّ مذعورًا، إذ سمع وقع خطوات المؤذن.
نظر إلى ساعته، فإذا بها الثالثة فجرًا بعد.. «لِمَ جاء المؤذن باكرًا؟» تساءل.
فتح الباب، فإذا بالرجل نفسه يعبر باب المسجد نحو الخارج.
تمتم الأستاذ مذهولًا: «أكان هنا طوال الليل؟»
ومنذ ذلك الحين، صار الأمر عادة..
سمع الأستاذ في كل ليلة وقع الأبواب وخطوات الرجل في الظلام.
وأدرك أخيرًا أن ما يراه ليس إلا صدى حب لم يمت، وأن الرجل قد اتخذ من المقبرة بيتًا ومن قبر رُقيّة وسادةً ورفيقةً.
وهكذا ظلّ يبيت إلى جوارها، غير آبهٍ بأفعى ولا عقرب ولا جنّ، يدفنه الليل معها في حكاياته، ويؤنسه حُبّ لم يَذوِ يوما.
✍️ آصف

