مقالات
“رؤية” هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية (48)
* التوازن بين الدين والعصرانية (1)
يواجه المسلمون اليوم تحدياتٍ كبيره تتمثّل في الحفاظ على هويتهم الدينية والتزامهم بمبادئ الإسلام، وفي الوقت نفسه التكيّف مع التغيرات السريعة في عالم يتسم بالتكنولوجيا والعولمة والتقدم، وتُعد مسألة التوازن بين الدين والعصرانية من أهم التحديات التي تواجه المجتمعات الإسلامية في هذا العصر، إذ يحتاج الفرد المسلم إلى إيجاد طريقة تجعل من الدين منارة هداية وتوجيه في هذا العصر المتقلّب.
– بداية تعالوا بنا نتعرّف على مفهوم العصرانية
مفهوم العصرانية في السياق الإسلامي
لا تعني العصرانية التخلي عن الدين أو طمس الهوية، بل تعني فهم متغيرات العصر وكيفية الاستفادة منها بما لا يتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية، فتطوير الذات واستيعاب التقدم العلمي والثقافي والفكري يعد جزءًا من حضارة الإسلام، هكذا كان وكذلك يبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والدليل على ذلك تاريخ المسلمين الأوائل الذين أخذوا بأسباب العلم وأسسوا حضارة زاهرة لم تتعارض مع قيمهم الدينية.
– مبادئ التوازن بين الدين والعصرانية
ولتحقيق التوازن الذي أقصده أضع عدة مبادئ منها:
1- الوسطية في الفكر:
فالإسلام دين الوسطية، فلا إفراط ولا تفريط، فعلى المسلم أن ينظر إلى الأمور بمنظور شامل ومتوازن، يتجنب فيه التطرف سواء في التشدد الديني، أو في الاندفاع نحو العصرانية بشكل يجعل الدين عنصرًا ثانويًا…فلا إفراط ولا تفريط
2- الاجتهاد في الفهم:
الاجتهاد هو جزء أصيل في الفقه الإسلامي، فهو يسعى لتقديم حلول للمستجدات في إطار شريعة الإسلام، بمعنى أن هناك مرونة في الدين تتيح للمسلم أن يجد حلولاً عصرية تتماشى مع المبادئ الإسلامية، وإلا ما كان للإسلام أن يكون صالحًا لكل زمانٍ ومكان.
3- التعليم المستمر:
فالمعرفة هي أساس بناء أي مجتمع عصري متحضر، إذ يجب على المسلم أن يسعى لتعلم العلوم الحديثة مع المحافظة على العلوم الشرعية، فالتعليم هو الوسيلة التي تجعله يدرك كيفية التفاعل الإيجابي مع التطورات.
4- استخدام التكنولوجيا كأداة:
ينبغي النظر إلى التكنولوجيا كمجرد أداة يمكن استخدامها للخير، فهي ليست غاية فهي وسيلة تساعد على تحقيق بعض الغايات، فهي ليست عدوًا للدين، بل يمكن توظيفها في نشر المعرفة والتعريف بالدين وقيمه.
*أمثلة عملية للتوازن
1- الحياة المهنية:
فعلى المسلم أن يسعى في عمله بإتقان وإخلاص، دون أن تكون انشغالات العمل عائقًا أمام عباداته وواجباته. وهذا يستدعي إدارة للوقت والتزامًا بالقيم الأخلاقية التي تعزز روح المسؤولية لديه.
2- الحياة الأسرية:
يقع الكثير من المسلمين في حيرة بين تقاليد الأسرة وتأثيرات الثقافة الغربية؛ هنا يأتي دور التعليم الديني المتوازن ليؤسس قيمًا أسرية متينة تنبني على الاحترام والتفاهم؛ وبالمناسبة أذكّر هنا امكانية الالتحاق بالتعليم الشرعي لمختلف الأجيال، وذلك بما وفرته كلية الشريعة في كفر برا بالتعاون من فروع الحركة الإسلامية التي انتشرت فروعها من الجليل الى المثلث إلى النقب.
3- الملابس والمظهر:
يجب على المسلم أن يكون حريصًا على أن يظهر بمظهر لائق لا يخل بتعاليم دينه، مع الحرص ومن دون مبالغة في التقييد أو الانفتاح، بحيث يكون مظهره معبرًا عن ثقافة تواكب العصر وتحترم الدين.
* تحديات التوازن
فالتوازن ليس أمرًا سهلاً، إذ يواجه المسلم تحديات تتراوح بين محاولات التغريب، وبين تيارات التشدد التي تجعل من الدين أداة للتقييد دون فهم حقيقي لمرونته، كما أن بعض الوسائل التكنولوجية قد تؤدي إلى الانغماس الزائد عن الحد في الأمور الدنيوية، مما قد يضعف الروحانية.
– فالتوازن بين الدين والعصرانية هو مسؤولية فردية وجماعية، حيث يتحمل كل مسلم مسؤولية الحفاظ على هويته وقيمه دون الانغلاق أو الاندماج التام، ويبقى الهدف الأساسي هو بناء فرد مسلم أو مجتمع مسلم متوازن يستطيع التعايش مع متغيرات العصر، ويستفيد منها في تطوير ذاته، دون أن ينسى رسالته الأساسية في عمارة الأرض وفق مبادئ الرحمة والعدالة والتقوى… انتظروا الحديث حول العنوان التالي: (القيادة الإسلامية في زمن التغيّرات السريعة)
– صباحكم طيب ونهاركم سعيد وآمن، ولنُكثر من الدعاء لتفريج الكروب وإخماد نار الحروب، ولا ننسَ الصلاة على خير مبعوث للعالمين، محمد ﷺ.
مقالة رقم: (1768)
01 جمادة الأولى 1446هـ
الأحد 03.11.2024 م
باحترام:
د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)