مقالات
لعبة الظروف.. بقلم رياض الصالح
لا زال في ذاكرتي يا صديقي حوارٌ منذ أيام الطفولةِ أعودُ إليه كلما ركبت حافلةً عمومية، أو أمسكَ بتلابيبِ مزاجيَ السيء ازدحامَ الناسِ في الأسواقِ أو الطرقات، أظنُّكَ كنت ترافقُني وقتها يا عزيزي.. نعم أذكر ذلك .. فأنت لا تزال معي .. أذكُرُ لعثمَتَكَ الطفوليّة وتفكيرُكَ البدائيّ، ثم تلك الرهبةُ المزعجةُ التي كانت تمنَعُكَ من قولِ ما تُريد، أو طرحِ أيّة أسئلة .. خشيَةَ استماعك لتوبيخٍ أو حكمٍ عليك بانعدامِ الفهم .. أو أن يكون حديثُكَ هذا سبباً في تغيّر نظرةِ الآخرين تجاهَك .. والتي كنت تريد الحفاظ عليها فلا يختلُّ مديحَهُم لهدوئك ورزانتك وشطارتك وأدبك ..
كنّا يومها على مقعدٍ واحدٍ متوجهين إلى المدرسة في حافلةٍ عمومية والرأس كما العادة قد التصقَ بالنافذة للمراقبَة، حتى توقفت الحافِلَةُ تماماً على إحدى الإشارات المرورية بجانب ذلك المبنى المزيّن برسمةٍ غريبة لا زلت أعجزُ عن فهمها حتى اليوم .. كما لم يُسعِفني لتحليلها تلك المَعرِفَةُ بأن ذلك المبنى كان وزارة المياه في مدينة القدس .. كان الناس يذهبون ويجيئون تباعاً، خطر في بالنا لأول مرة ذلك السؤالُ الغريب الذي لا زال يحيّرُنا .. من أنا ومن كلُّ هؤلاءِ الناس .. وماذا سيفعلُ فردٌ واحدٌ مثلي في مجموعةٍ كبيرةٍ من البشر لا تكادُ تلتفتُ لوجوده وهو الصغيرُ السمينُ العربيُّ الفلّاحُ ذو الثياب الرثّة .. فردٌ مقابل جماعة .. هذه المصطلحات التي خطرت على البال وقتها .. ولم نكن ذو ثقافة حينها تسمح باستخدام مصطلحات أخرى أكثرَ ملاءمة، ولا أن يكون سؤالنا أكثرُ تحديداً ووضوحاً .. لم نقرأ وقتها ” سيكولوجية الجماهير ” لجوستاف لوبون، لم نعرف شيئاً عن علم الاجتماع أو علم النفس الاجتماعي .. باختصار لم نكن نعرف إلا كيف نرعى الأغنام الجديدة التي اشتراها الوالد وكلَّفَنا بمساعدته في حلبِها ورعايتها..
منذ ذلك الوقت .. والسؤالُ يأخذُ من تفكيري وجهدي وحيرتي لإعادة صياغته بنفس البساطة التي كنتُها .. غامرتُ من أجلِ الإجابةِ الصحيحة في مئات الأجوبةِ الخاطئة.. والتي كلَّفَتني نفسيّة مزاجية، وعاطفة مهتزّة، وغموضاً منطقياً لا يُفلِحُ في التوضيح.. مع حرصه الكاملِ على الوضوح والمصداقيّة..
منذ ذلك الحين كلَّفَ ذلك الفردُ الضعيفُ نفسَهُ بمسؤوليةِ رعايةِ تلك الجموع، أو إصلاحَهُم، لم يكن يدركُ وقتها أنّهُ ليس براعٍ بارع .. وأن تلك الجموعُ ليست بأغنام، ولم يُدرك بأنّه لا ينفردُ بالصواب وليسوا هم كذلك على خطأ، لقد استهلكَ المسكينُ عمراً حتى توصَّلَ إلى تلك الإجابةِ البسيطة، فلم يفهَم وقتَها ماذا تفعل الظروف بالفرد ناهيك عن المجتمع.. كان لا يزال تحت كنَف والديه .. تُشَكّلُهُ ظروفٌ مُعيّنة .. ثمّ لبث سنيناً يكافحُ بعد استقلاليته من أجل تحريرِ نفسه من أسرِ التزاماته تجاه أي خطأ – حسب رأيه – متوارثٍ هنا أو هناك، حتى أُنهِكَت قواه أمام ذلك العجزِ الطاغي، عن تغيير الظروف التي لا دخل للفرد بها سوى أنّهُ تعرّضَ لها بحساسيّةٍ مُفرِطَة رغماً عنه أو طمعاً منهُ بالتجربة .. ولم يكن يعترفُ بالعجزِ قبل ذلك مطلقاً، لقد كانت مفاجأته بنفس حجمِ التغيّرات التي طرأت عليه.. وهو الوحيدُ الذي يعرف قدراته العنادية وإرهاصاته النفسية وثباته الذي شكلته جبال المراعي .. ليتلاشى هذا كلّهُ أمام صفعاتٍ حياتيّةٍ أعادت تشكيلَ كلِّ شيء بهدوء وسكينة تارة وبعاصِفَةٍ هوجاءَ تارَةً أخرى .. حتى جاءت لحظَةُ اليقظة .. وأوقَفَت مجدافه – ولا أقول كسرَته – ليتَقَبّلَ الواقِع ويَفهَمَ قُوّةَ الظروف، وينسابَ بذكاءٍ مع التيار الجارف نحو ما يريد بلا تحسّس .. بعدما جدّف عكس التيار سنيناً ..
علم بعدها .. أن هذه الجموع المُتَضَخّمة .. قوّةٌ عظيمةٌ يُنتِجُها أفرادٌ بسطاءَ خاضعين لظروفٍ خاصةٍ وأخرى عامة .. تميل بهم لتطيحهم أو تحطمهم تارة أو ترفعهم نحو السماء تارة أخرى .. وليست قوّةُ الكلمات ولا عظيمُ الأفكار ولا ملايين المباديء تؤثِّرُ مثلَ الظروف السائدة والتي تصنعُ ذلك كلّه وتضَعهُ ضمن القالِب الغالب ..
فليس الخائف كما الشجاعُ يا صديقي.. وليس العاطل عن العمل كمن لا يسعفهُ الزمنُ من كثرةِ أشغالِه .. وليست العلاقاتُ المريحَةُ كتلكَ المعقدة في تأثيرها على النفسيّة .. وليس المُتَعَرّضُ للكبتِ والحزنِ والإجحافِ والقهرِ كمن يعيش بظلال حرية الحركةِ والتغيّرِ وإبداء الرأيِ ..
هذه الجموع يا صديقي إذا أدركت تأثيرها تستطيعُ أن تفعلَ العجائب .. لذلك يعبثُ من يُدرِكُ قُوّتها ثمّ يريدُ التلاعبَ بها بتلك الظروف النكدة، ليتسنّى لهُ استغلالَ تلك القوّة لمصالحه بأي وسيلةٍ من وسائل التأثير على تلكَ الجموع المغيّبَة عن الطبخة ..
# بقلمي
# رياض الصالح