اخبار الفن
في موسيقى #مارسيل_خليفة، ثمة ما يُخاطبُ شعورنا الجمعيّ، وثمة ما يوشوشنا، في رُكنٍ مُعتمٍ
وسام جبران
في موسيقى #مارسيل_خليفة، ثمة ما يُخاطبُ شعورنا الجمعيّ، وثمة ما يوشوشنا، في رُكنٍ مُعتمٍ، قصّتنا الذاتية.
مع الأول، نصعد سُلمَ وُجداننا الجمعيّ، نرتقي، فنعيش أحلامنا، والأمنيات، والجروح، والأملَ، مع الكمنجاتِ الصّادحة المتّفقة على اللحن والسُّلّم الموسيقيّ، ومع الإيقاع الذي يُنظّم انفعالاتنا المتفجّرة.
مع الثاني نتكور في سرّنا وخاصِّنا، فنعيش خيالاتنا الجامحة، فانتازيا الممنوع، آلامنا الشخصيّة، ارتعاشاتنا الجُوّانيّة، مخاضاتنا القلقة، واللا-أمل المُقاوم بصمتٍ مع نغمات “فْلُوت” مُلتوية تحوّم حول “كلارينت” رخيمٍ وحكيم في مناورةٍ بوليفونية عذبة.
مع الأول نبتعد، ننفعل، نصفّق، كي نرى صورتنا الكاملة دُفعةً واحدةً في غناء جماعيّ يحوّلنا إلى بشرٍ ملائكة متناغمين، نستعذب في “نبيذ شفاهنا” المتشقّقة “بُندقيّةً” تحُول بين عيوننا وبين “ريتّا”، ومع الفرح الجماعي المجبول بحزننا وبكلّ ما هو مقموع فينا، تغني النساءُ من خلف الحُجُبِ “الليله بدي خلي الكاس يفز يبوس القنينة”، فتختفي السُّلطاتُ وخطاباتها المُعتمة، وتُمّحَى الفوارق بيننا، تتلاشى من على أرضٍ وعرة في سماء الموسيقى النديّة، ونسير معًا إلى مرفأ مارسيل خليفة الآمن الذي نسميه أحيانًا “الموسيقى”، وأحيانًا نسميه “الوطن”.
مع الثاني، نقترب، نوغل، نُصغي، كي نُمعن في التفاصيل التي تجعلنا نسبح في لحنٍ خروماتيكيٍّ خجولٍ يتسلل خلف سطوة “ريتّا” بأنفاس عازفة نايٍ منغمسةٍ في دورها الشخصي المندمج في الكل والمُصغي، ونستلقي في ارتجالٍ نزقٍ للتشيلو طربين منتشين، ونتسلل بصمتٍ لنستكشف بستان الأصوات في رأس مارسيل خليفة الذي يضجُّ بالورد، نتساءل معها: كيف نتحاور بلا ضغينة، بلا إقصاءٍ، بلا موتٍ! كيف نجعل من دندنةٍ سمفونيّة! كيف نصنع من خيمةٍ مدينة!
*
ثمة تفاوض خفيّ بين سُلطة الجمهور، سُلطة المرغوب، سُلطة الحنين، سُلطة اللحظة الجمعية الكورالية العفويّة الضخمة، سُلطة المُدرّج الرومانيّ، وبين سُلطة المؤلّف والعازف، سُلطة المسرح، سُلطة الهامس، وسُلطة المُجرّب المتمرّد النّاشز. هذا التفاوض الذي يتناوب فيه الطرفان “الإخضاعَ”، يُشبه جماع حبيبيْن في تنافسهما على من يمنح رغبته أكثر للآخر، من ينتشي بانتشاء غريمه…
*
تصفيقٌ واهتياجٌ وفرحٌ جماعيٌّ وحنين… وغضب وغضب وغضب… ثم ينفرد رامي خليفة بالبيانو، يُمارسُ معه نزواته وفيضه على مرآى وعلى مسمع المدرّج الكبير، الذي تحول فجأةً إلى آذانٍ تُصغي لجروح البيانو، نزيفه الداخليّ المحتشم، براعته، همسه، أناقته، انفلاته… أتساءل بصمتٍ: هل سينجو رامي خليفة بنفسه من جمهور على موعدٍ مع ذاكرته اللحنية الحميمة! والجواب كان في التصفيق الذي رجّ حجارة الرومان وثِقل التاريخ، فغمر هذا الإبداع الهجين بالحب والتقدير والإعجاب.
*
“سمعونا أصوات الصبايا وحدُن”، همس مارسيل إلى جمهوره، فأخرس الرجال.
للمرأة صوتٌ، وللمرأة حضور الضوء وانكشافُ السّحر في حضرة مارسيل خليفة.
غنت النساء فلانت الحجارة.
*
اختار مارسيل أن يخوض حنينه إلى أمه الغائبة وحده؛ وحده بصيغة الجمع الساكت. في هذا الصّمت الجليل، قال مارسيل لأمه:
“خذيني، إذا عدتُ يومًا
وشاحًا لهُدْبِكْ
وغطّي عِظامي بِعشبٍ
تَعمَّد من طُهر كَعبك
وشُدّي وثاقي..
بِخصلةٍ شعرٍ..
بخيطٍ يُلوَّح في ذيلِ ثوبك..
عساني أصيرُ إلهًا
إلهًا أصيرْ
إذا ما لَمستُ قرارةَ قلبك!”
Marcel Michel Khalife