.
أمّا أوّل من وضع النّحو واشتغلَ به ، هو أبو الأسود الدّؤلي وتعاقب عليه مؤلّفون بعده ،وأما أنّ هؤلاء قد اختلفواوانقسموا إلى مدرستين واحدة في الكوفة والثانية في البصرة ، فلهذه الوقائع دراساتُها الخاصة .
ولنا في ما نهدف إليهِ أن نتناولَ الخطى التي سار عليها هذا العلمُ في ظلال الحياة اللّغويّة ومراحله في وقايتِها .
كان لا بدّ من عملٍ منظّم وإلى دراسة منظّمة ليكونا سلاح النّحو في محاربة تفشّي الملاحن. لقد صار اللّحن كالعدوى يصيب عامة الناس ليملأ كلّ بيتٍ عربيّ ، وأوشك أن يتصدّرَ مقاصيرَ الحكم وأن يبلغَ محاريب المساجد وحلقات الدّرس ، فأتت هذه الحركة التّنظيميّة لتقي اللّغة وقايةمدروسةُ فكان علم النّحو الذي يمثّل العمل العلميّ في تحصين اللّغة وتنقيتها (يراجع كتاب شكري فيصل ، المجتمعات الإسلاميّة في القرن الأوّل الهجري ، ص282 )..
فكان المظهرُ الأوّل لحركةِ النّحو أنّه عمل على حفظ التّصريف الإعرابيّ ..وهو أوّل ما أصابَ اللغة العربيّة من إنحرافٍ أنطلقت به ألسنة العرب المهاجرين وألسنة الأعاجم المتعرّبين .. والجيل الأوّل من النّحاة أدرك ما سيصيب العربيّة من تحرف إن هي مضت في التّحلّل من هذا التّصرُّف الإعرابي لأنّ الحركاتِ التي كانت تعلو أواخر الكلمات لم تكن زينة في العربيّة ، وإنّما كانت لها دلالتها العميقة في تركيب الجملة وبنائها . هي حركاتٌ كانت جماع العلاقات التي تربط بين الكلمات في الجملة وتدلُّ على عملها ومعانيها . إذًا هي لفظة وفكرة. وشاهد على ذلك ما أورده إبن النّديم في كتابه الفهرست أن السّبب الذي دعا أبا الأسود الدّؤلي ليرسم ما رسمه من هذا العلم أنّه سمع مرّة قارئًا يقرأ : ” إنّ اللهَ بريءٌ من المشركين ورسولُه ” بكسر اللّام في رسوله ،ليبرأَ الله من المشركين ومن الرسول في آن وذلك انحراف في المعنى خطير، فحزّ الألم في نفسه وقال :
“ما ظننت أنّ أمر النّاس قد آل إلى هذا “. فطلب كاتبًا يفعل ما يقوله له ، ولمّا جيءَ به قال له : إذا رأيتني فتحت فمي بالحرف فانقطْ نقطة فوقَه على أعلاه ، وإن ضممْتُ فمي في حرف فانقطْ نقطة بين يدَيْ الحرف ، فإن أتبعت شيئًا من ذلك غُنّة فاجعلْ مكان النّقطة نقطتيْن، وإن كسرت فاجعلِ النّقطة من تحت الحرف .. الفهرست 40.
غير أننا يجب أن نذكرأن النّحو الذي وضعه أبو الأسود لم يكن هذا النّحو الذي نعرفه الآن ، وأنّ آية ما وضعه أتت في حدود هذا الشّكل لأحرف الذّكر الحكيم تعبيرًا شديد الوضوح عن مدى انتشار اللّحن في إهمال الحركات أو فسادها .
ويكمل نصر بن عاصم اللّيثي تلميذ أبي الأسود مهمّة استاذه بطلبٍ من الحجّاج ، فلم يكتفِ بمقاومة إهمال الإعراب ، بل تعدّاه إلى أن يتلمّس أسلوبًا من التّمييز بين الاحرف المتشابهة في القرآن الكريم ، والمخالفة في نقطها ، فيزيل العجمة والإبهام ، و يضع النّقط والحركات في الكلمات. وقد سمّى عمله هذا بالإعجام..
غير أنّ النّحو لم يقتصرعلى الإعراب والإعجام، فها هو يجتاز منطقة القرآن الكريم ليتناول ذخائر العربيّة الأولى، فأخذ يُعنى بالتّراث الأدبيّ الجاهليّ والإسلاميّ، وأخذ يُعنى بصيانة هذا التّراث والإفادة منه في إقامة قواعده واستخلاص شواهده . فكانت إفادةٌ من مظاهر الفنّ القولي الأخرى في سبيل خدمة القرآن كذلك . فما عاد اكتفاءٌ بوضع الحركات كونها الإنعكاسَ لظاهرة العلاقات الفكريّة التي تربط أجزاء الجملة ، إذ راح يفسّر حركات الإعراب ويقيس عليها ويمدّ في آفاق القياس . ومن هنا كانت قولة محمّد بن سلام الجمحي: ” إنّه كان من بعده _ ويقصد أبا الأسود _ عبد الله ابن أبي إسحق، فكان أوّل من بعج النّحو ومدّ القياس والعلل” . (طبقات الشعراء. ص6) .و(يُراجع كتاب المجتمعات الإسلاميّة لشكري فيصل . ص289) . لقد صار النّحو يلاحق اللّحن، فما إن يقع اللّحن في اللّفظة أو في صياغة الجمل حتى يبادر النّحو ليحدّد مكان معاني اللّفظة ومواطن استعمالها ، كما يبيّن كيفيّة صياغة الجملة وطريقة البناء اللّغوي الصّحيح للجملة العربيّةِ .
واستطاع النّحو في سلسلة متدرّجة من الجهود أن يضعَ القواعد التي تميّز الصّحيح والخاطئ من الإستعمالات اللغويّة. ليمتدّ سلطانه ليس فقط على مسلمة الأعاجم أو مولّدي العرب بل تطاول فنشد سلطانه على كبارالكتّاب والشّعراء ،وأثاررجالُه سلسلةً من الخصومات بينه وبين الشعراء العرب الأصليّين . فكان أن أتخذ عبد الله إبن أبي إسحق موقفًا من الفرزدق في خروج عن السليقة العربيّة الأصيلة فما كان من الفرزدق إلا أن يهجوه بقوله :
“فلو كانَ عبدُ اللهِ مولى هجوْتُه ولكنَّ عبدَ اللهِ مولى مواليا ”
فما كان من عبد الله إلى أن نبّه الفرزدق إلى أنّ في هجائه خطأ أخر إذ كان عليه أن يقول : مولى موال. لأن موالٍ إسم منقوص تحذف ياؤه في الإضافة متى كان نكرة .
ثمّ ألم يقلْ الفرزدق في مدح زين العابدين :
ما قال قطُّ إلّا في تشهّدِه لولا التّشهّدُ كانت لاءَه نعمُ
فها هو هنا قد قدّم الخبرلاءَه على الإسم نعم ، حيث لا يجوز في عرف النّحويّين .
وها هو عبد الله نفسه يعود بسلطانه إلى العصر الجاهليّ فيشير إلى خطأ وقع فيه النّابغة الذبيانيّ في قوله :
“فـبتُّ كـأنّي ساورتـني ضئـيلةٌ
من الرّقشِ في أنيابها السّمُ ناقعُ ”
إذ كان يجب أن يقول ناقعًا على أنها حال .
والواضحُ أن النّحويّين لم يأخذوا بواقع أنّ سعة اللّغة العربيّة وتعدّد لهجاتها وكثرة قبائلها كانت تبيح وجوها مختلفة لبعض ألوان الصّياغة والتّراكيب ، لأنهم وجدوافيها لونا من الإضطراب الذي لا تجيزه قواعد العلمِ الجديد الذي ينشد التحديد والوضوح .ولهذا أخذ النّحو يضيّق ما اتّسع ويشذّب ما تناثر، ويسكب الآثار الأدبيّة جميعًا في قالب واحد.
وحتى في قراءات القرآن الكريم إختار النّحو ما يلتئم مع القاعدة العامّة، فأبو عمرو بن العلاء يرجّح أن يقرأ” إنّ هذيْن لساحران” عوضًا عن القراءة” إنْ هذان لساحران” ، وأكون بدلًا من أكن في قوله تعالى:” لولا أخّرتَني إلى أجلٍ قريبٍ فأصّدّقَ وأكن من الصّالحين ” . (يراجع كتاب شكري فيصل المصدر السّابق ذكره . ص291. ).
ويبقى أنّ اللّحن والنّحو كانا ثمرتين هامّتين من ثمرات الفتوحات ، وكان على الولاة والقادة أن ينبروا للدّفاع عن لغتهم وعن تراثهم الفكريّ والأدبيّ فكان الدّعم القويّ منهم لعلماء مبرّزين سدّدوا الخطى وحافظوا على سلامة لغتهم وحيويّتها ولا ريبَ في أنّ الحفاظَ على تقنيّة القرآن الكريمِ كان الدّافع الأوّل لنشوء علم النّحو الذي طاردَ اللّحن أينما بدا .
عبد الله سكريّة .