مقالات

لكنها ممطرة ..رياض الصالح

جالس بهدوء غير معهود، يراقب عبر النافذة جنوناً يدور في الخارج، لا يفهم إن جاز أن يسميها جنون الطقس أم طقوس الجنون، سماء ملبدة بغيوم سوداء، يشق سوادها لمعان برق يخطف البصر ويجلي البصيرة، ثم يتلوه رعد قاصف تهتز له الفرائص الساكنة، ويوقظ النيام الغرقى في أحلامهم.
ترى كيف سيكون للحياة طعمٌ أو لونٌ إذا توقف الكون عن طقوس جنونه وحركات سحره الأسود، لتحضير هذا المشهد البائس المعقَّد، الذي سينتهي بزخات هائلة من الأمطار والتي تحيي الأرض وهي رميم، وتجلب ألوان الحياة التي تزين الفصول التي تليه.
كان يلزمه أن يشهد هذه اللقطة التي لمعت ببريقها في عينيه من النافذة، فقد كان يتساءل عن سبب هذا الجفاف الذي يغزو آباره الارتوازية، وهو يعلم أن في أعماقه ما يكفي ليملأ المحيطات، فهل كان ينقصه آلات حفرٍ أكثر جودة، أم أنه لا زال يجهل كيف يستخدم المعدات التي بحوزته.
هذا هو السبب، كذلك قال في نفسه، لقد ظن أن الشتاء القارس لا يتلاءم مع ماهيته الروحية، فهو يكره القتامة التي تعتري سماءه كلما حل شتاؤها، لكن ظنونه تلك التي حفزت لديه الرغبة في تغيير الفصول، واختبار الشمس الدافئة، والاستلقاء على العشب الأخضر تحت الأشجار اليانعة، لم يكن يلائم تركيبته النفسية، فتدرج به الحال حتى عاش صيفاً جافاً قضى على أصول ينابيعه.
لا أفهم لماذا لا يتحلى البشر بالرضى طالما تبذل نفوسهم العطاء، وتساق إليها ما يكفيها من الأرزاق، لماذا تظل منهكة نفسها في أمنياتٍ زائدة عن الحاجة، مترفةٍ بالزينة والكماليات، فتخوض لأجلها مائة ألف طريق تنتهي بها حيث بدأت، لكنها تكون قد استنفدت كل طاقتها، وأضاعت رونق شغفها، وفاتَها موعد البذر أو وقت الحصاد.
عرفت الآن لماذا تكتُبُ لوعةُ الشوق آلافاً من الأبيات، و كيف يكون البعد سبيلاً لغرامٍ أبديّ، ولماذا تشق الآلام أصعب الطرقات، ولماذا يرفض الفلاسفة المتهمون بالجنون كل علاجات الكون، وعقاقير الموت، ليبقى عطاؤهم الفكريُّ وعقولهم الخلاقة تتفجر بينابيع الحكمة وأنهار الفهم.
فمرحى للألم المنتج، مرحى للقلب المتهدِّم لما يَبني بِيَدٍ مكسورة، ويشيّدُ أعلى الأبراج، ويكونُ منارة إشفاقٍ تنقذ سفناً تغرقُ في النوم.
أصبحت لا أشفق على أناسٍ أصابتهم تلك الانتكاسة المكتئبة بعد صدمةٍ نفسيةٍ طارئة، أو مصيبةٍ مفاجئة، ليس إلا من أجل معرفتي، بأن هذه الهزة العنيفة، قد توقظ صاحبها من غفلةٍ صاحبته سنوات طوال، فتزيح أرطالاً من العادات المقيتة التي أثقلت كاهله، وأتعبت قدميه، وعودته الكسل، ليعيش مرحلة جديدةً إذا أحسن استغلالها، وتجاوز سلبياتها، عاش فيها غاياتٍ كانت مجرد أحلامٍ على ورق، وفجرت آباراً لم تكن مكتشفة، وشجّرت صحراء كان يظنها لن تخضرّ يوماً من الأيام.
لا زالت السماء مكفهرةً لكنها ممطرة، غاضبة لكنها معطاءة سخية، باردة لكنها تحث على التماس الدفء، ضاجّةٌ لكنها تبث الإلهام ، هكذا نطق لسان صاحبنا، فأمطر قلبه دمعاً، وأشعلت عيناه برقاً، وخطت يداه، هذه الكلمات.

# بقلمي
# رياض الصالح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق