مقالات

أحمد شيخ سروجية أستاذ الجراحة في الجامعة الأردنية ومعرّب العلوم الطبية في مجمع اللغة العربية الأردني

كتب الأستاذ سمير الدروبي عضو المجمع عن الراحل السروجية في الإطلالة المجمعية

“سأتناول في هذه المقالة المكرسة للحديث عن الراحل أحمد بن سعيد شيخ سروجية عضو مجمع اللغة العربية الأردني من حيث مولده وتعلمه، ودراسته الجامعية وعمله في المستشفيات الأردنية، وتدريسه لطلاب كلية الطب في الجامعة الأردنية، وما شهد به له طلابه، وجهوده في التعريب وخدمة أهداف مجمع اللغة العربية:

أولاً- مولد سروجية في عمان بعد هجرة أسرته إليها من دمشق:
ولد الراحل أحمدُ بن سعيد بن أحمد شيخ سروجية في الشهر السابع من عام 1941م في العاصمة الأردنية عمان، وكانت أسرته تقطن محلة أوحي الشابسوغ القريب من المسجد الحسيني في وسط العاصمة. وكان والده وعمه قد هاجرا من دمشق إلى عمان في منتصف العشرينيات من القرن الماضي إبان اشتعال الثورة السورية الكبرى.
وفي عمان باشر سعيد والد المرحوم مهنة آبائه، ففتح حانوتاً أو دكاناً لصناعة سروج الخيل وما يتعلق بها من مستلزمات السلاح الذي يحمله الخيالة، وكانت مهنة السراجين محترمة في المجتمع الدمشقي وفقاً لما ذكر في “قاموس الصناعات الشامية” الذي نشره ظافر القاسمي عام 1988م في دمشق.
ويبدو أن والدَه سعيد وعمَّه إبراهيم وشريكاً ثالثاً لهم اسمه رشيد الوزان هم أولُ من أدخل صناعة السروج إلى عمان في منتصف العشرينيات من القرن الماضي، وما زال ابن رشيد الوزان يمارس هذه الصناعة في متجره الواقع في شارع الملك طلال حتى الآن، بيد أن سعيداً والد المرحوم استقل عن شريكيه، وفتح متجراً جديداً في مطلع الثلاثينيات، وأصبح بائعاً لأقمشة الجوخ.
ثانياً- تعلم سروجية في المدارس الأردنية:
تلقى أحمد سروجية تعليمه الأولي في الكلية العلمية الإسلامية التي أسست عام 1947م في جبل عمان، وهي مدرسة خاصة ذات فلسفة تربوية، وتقوم رسالتها على التمسك باللغة العربية والتربية الإسلامية، ونصّت على أن الكلية العلمية الإسلامية تعمل على “إعداد جيل واعٍ قادر على مواجهة الحياة من خلال تطوير مهاراته المعرفية والجسمية والاجتماعية في بيئة إسلامية معتدلة… وتهتم بتنشئة جيل واعدٍ متعلم باحث، متزن الشخصية، معتز بدينه ولغته، وإرثه الحضاري، مواكب للتطورات العلمية والتكنولوجية الحديثة”.
ويختار للتدريس في مدرسة الكلية أكفياءُ المعلمين في موادها الدراسية، ويبدو أن أحمد سروجية قد قبس الكثير من نور العلم في تلك المدرسة المعطاء، ونشأ على حب العربية التي أتقنها، وبقي مدافعاً عنها لغة علمية حتى آخر أيامه.
لم تكن الدراسة في الكلية العلمية متاحة إلا للقليل من الطلاب القادرين على تحمل رسومها الباهظة من أبناء الملوك والأمراء، والتجار والأثرياء، وغيرهم من ذوي اليسار، ومما هو جدير بالذكر أن الملك حسين بن طلال –طيب الله ثراه- كان واحداً من طلاب هذه المدرسة الرائدة التي قلما خلا عام دراسي دون أن يكون واحدٌ أو أكثر من طلابها في شهادة الثانوية الأردنية من العشرة الأوائل في المملكة.
وبناءً على ما تقدم فإن أحمد سروجية كان من المحظوظين في إتاحة فرصة الدراسة له في الكلية العلمية الإسلامية، مما يدلنا على أن والده كان مقتدراً مالياً على دفع رسوم هذه المدرسة من ناحية، ويشي بأن ذلك الوالد كان واعياً وحريصاً على تنشئة ابنه تنشئة عربية إسلامية من ناحية أخرى.
انتقل سروجية من الكلية العلمية الإسلامية إلى كلية الحسين الثانوية ليكمل فيها مرحلة الدراسة الثانوية، ومعلوم أن كلية الحسين، وهي مدرسة حكومية كانت مخصصة للطلبة المتفوقين في المملكة، وكانت تُعدّ المدرسة الأولى لدى وزارة المعارف التي عينت لها أكفياء المعلمين في تخصصاتهم المختلفة حينذاك. فحصل سروجية على شهادة الثانوية العامة عام 1958م، ثم سافر إلى مصر والتحق بمدرسة المنيل النموذجية في القاهرة، وحصل على شهادة الثانوية المصرية عام 1959م، وبهذا يكون سروجية قد مرّ بتجربة الثانوية الأردنية والثانوية المصرية، ولا شك في أنه أفاد من مناهج الثانوية في البلدين، ومما في هذه المناهج من اتفاق وافتراق في الأهداف والسياسات التعليمية.
ثالثاً- دراسته الجامعية
أتاح تفوق سروجية في الثانويتين الأردنية والمصرية له فرصة التسجيل طالباً في كلية الطب في جامعة القاهرة، التي كانت يومها تركز على الكيف لا الكم في أعداد خريجيها، فنال منها بكالوريوس الطب والجراحة بدرجة الشرف عام 1965م، ثم أمضى سنة الامتياز 1965-1966م طبيباً متدرباً في مستشفى القصر العيني العريق وهو من مستشفيات جامعة القاهرة.
عاد سروجية إلى الأردن عام 1966م، فعين طبيباً مقيماً لمدة عام في مستشفى التوليد في عمان، ثم شدّ الرحال إلى إنجلترا، وأكمل تدريبه في الجراحة في مستشفياتها، وتنقل في مستشفى أشفورد ميدلسيكس بين أقسام: الإسعاف والطوارئ، والجراحة العامة، وجراحة العظام، والجراحة العامة في الأعوام 1967-1972م، ثم عاد إلى إنجلترا عام 1980م للتدريب على جراحة الغدد الصماء في مستشفى نيوكاسل.
رجع سروجية بعد رحلته العلمية الناجحة إلى إنجلترا، وهو مؤهل تأهيلاً عالياً في اختصاص الجراحة العامة، وجراحة الغدد الصماء، فقدم خدماته في مستشفى الزرقاء الحكومي 1972-1974م، وفي مستشفى البشير في عمان 1974-1975م، وفي مستشفى الجامعة الأردنية 1975-1979م، وفي مستشفى الجامعة الأردنية أمضى سروجية أربعة عقود تقريباً حينما تقاعد من العمل الطبي والتدريس الجامعي.
رابعاً- سروجية: الطبيب الإنسان والأستاذ الجامعي:
باشر سروجية العمل الأكاديمي منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، وعمل في كلية التمريض التابعة لوزارة الصحة الأردنية محاضراً في الجراحة سنة 1974-1975م، ثم عُيّن أستاذاً مساعداً في كلية الطب في الجامعة الأردنية منذ عام 1975-1988م ثم أستاذاً مشاركاً بدءاً من عام 1988-1993م وهو العام الذي رقي فيه أستاذاً في تخصص الجراحة العامة والغدد الصماء، واستمر بعدها أستاذاً جامعياً وطبيباً حتى تقاعده.
تتلمذ على يدي سروجية أفواج من الطلاب في مادة الجراحة، وعالج الآلاف من المرضى، وعرف بين طلابه ومراجعيه من المرضى بالإخلاص في العلم، والسداد في الرأي الطبي، والنصح لمرضاه والإشفاق عليهم، وشُهِد له بالتفاني في تعليم طلابه وتدريبهم، فكان بعيداً عن الحقد أو الشللية، أو الاحتكار، أو التسلط، يقف على مستوى واحدٍ من كل طلابه، ويكره المحسوبية ويرفض الواسطة، ويمقت أخذ حقوق الآخرين، ويحرص على مصلحة المستشفى (مستشفى الجامعة الأردنية)، وقد شهد لسروجية بهذه الخصال التي تنم عن شرف النفس وكرمها، وعن الخلق الرفيع، والرفعة في السلوك، والصدق في القول والعمل، كثير من زملائه وطلابه الذين أصبح بعضهم من كبار الأطباء في الأردن وفي العالم العربي.
خامساً- بعض من شهادات طلاب الراحل سروجية في شيخهم ومعلمهم:
وصفه تلميذه ضرار بلعاوي، الذي أصبح مستشاراً في العلاج الدوائي والسريري: بأنه كان متواضعاً متفانياً في خدمة مرضاه وطلابه طوال أربعين عاماً في مستشفى الجامعة الأردنية، وكلية الطب فيها.
وقال نذير عبيدات رئيس الجامعة الأردنية في نعيه لسروجية بأنه: “شيخ الجراحين الأردنيين، وأستاذ جراحة الغدد في الأردن والوطن العربي، الطبيب المبدع الذي أمضى عمره متفانياً مخلصاً، مثابراً في عمله على مدار ما يزيد على أربعين عاماً”.
وكتب إسلام مساد رئيس جامعة اليرموك بتاريخ 24/9/2023م مؤبناً أستاذه سروجية، وواصفاً إياه بأنه: “معلم فذّ دقيق مهني، وشخصية تحفل بالقيم والشيم الإنسانية النبيلة، والاستقامة الفكرية، والنزاهة العلمية”.
وأضاف المساد بأن سروجية كان: “نبراساً منيراً نهتدي به، ونموذجاً طبياً في الحكمة، وقدوة حسنة، وهو الذي أشاع في الجسم الطبي في الجامعة الأردنية ضرورة أن تكون الأخلاق هي المحفز والمحرك لكل فعل يقوم به الإنسان”.
سادساً- سروجية المجمعي وتعريب العلوم الطبية:
نشأ المرحوم على حب العربية التي تلقاها على أكفياء الأساتذة ونوابغهم في الكلية العلمية الإسلامية، وفي كلية الحسين في عمان، وعرف ما لهذه اللغة العظيمة من دور في تاريخ العلم والحضارة الإسلامية، وأنها كانت لغة العلم طوال ألف سنة، حتى أن الطبيب في الغرب كان محتاجاً إلى تعلم العربية قبل مئتي سنة؛ لأن المصادر الأساسية في الطب كانت بهذه اللغة مثل “القانون في الطب لابن سينا، و”الحاوي” للرازي، و”الشامل” لابن النفيس وغيرها من المصادر العربية التي تُعدّ موسوعات طبية لم تفقد قيمتها العلمية حتى وقتنا الحاضر.
رأى سروجية أن العربية في عصرنا قد أصبحت مبعدة عن تعليم العلوم الحديثة في التعليم الجامعي، وأن الغرب يمارس سياسة مقصودة تهدف إلى إقصاء العربية عن الكليات العلمية، ويقارن سروجية بين حالنا وحال أسلافنا قائلاً: “إن أسلافنا العرب المسلمين صدروا في نقل المعرفة إلى اللغة العربية عن أولوياتهم المدروسة، بينما نصدر نحن ويا للأسف عن أولويات الآخرين المدروسة، وشتان بين الحالتين”.
لاحظ سروجية خلال تدريسه الجامعي أن من أهم العقبات التي تحول دون تعريب الطب في التعليم الجامعي، قلة المراجع الطبية المترجمة إلى اللغة العربية، فاختار واحداً من المصادر القيمة في ميدان تخصصه، وهو كتاب “جراحة الغدتين الصماويتين الدَّرقية والدُّريقية” لـ أورلو كلارك أستاذ الجراحة في جامعة كاليفورنيا، وقام بترجمته إلى اللغة العربية بأسلوب واضح يُسهل على الطلبة قراءته وفهمه، وقد تجاوزت صفحات هذا الكتاب الخمسمئة وثمانين صفحة، ونشرته عمادة البحث العلمي في الجامعة الأردنية عام 1992م.
عَرفَ مجمع اللغة العربية ما لـسروجية من دور عظيم في الدعوة إلى تعريب العلوم، ومباشرة ذلك قولاً وتجربة، فانتخبه عضواً عاملاً بتاريخ 10/10/1996م، وصدرت الإرادة الملكية بالموافقة على ذلك بتاريخ 30/10/1996م.
ترجم سروجية وأشرف على ترجمة كتاب “الموجز في ممارسة الجراحة” لبيلي وولاف، والكتاب موسوعة في ممارسة الجراحة، تزيد صفحاته المترجمة على ألفي صفحة من القطع الكبير، نشره مجمع اللغة العربية الأردني، وهو في أربعة أجزاء ضخمة من القطع الكبير، وقد فاز هذا الكتاب الجليل بجائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي عام 1998م.
وكان لسروجية جهود مميزة في ميدان وضع المصطلحات الطبية وتعريبها، ومثّل المجمع في عدد من المؤتمرات والندوات المتعلقة بتعريب العلوم. حقاً لقد كان سروجية مفخرة من مفاخر الأردن في التعليم الطبي، وفي تعريب المصادر العلمية في الطب، وفي الدعوة إلى تعريب العلوم، ورأى في ذلك واحداً من أهم الأسس التي تقوم عليها نهضة الأمة، ولذا فإنه يمكن القول: إن سروجية من أكبر دعاة نقل العلوم العصرية إلى اللغة العربية في بلادنا الأردن وفي البلاد العربية، ومن أهم الأطباء والعلماء العرب الذين عرّبوا المصادر الطبية، وأتحفوا هذه اللغة الشريفة بأنفسها.

المصدر : مجمع اللغة العربية الأردني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق