ثقافه وفكر حر

كاميل كلوديل… مُلْهمةُ رودان وفنّانةُ التراجيديا

عبد السلام السلامي-

بمناسبة ذكرى وفاة النحات الفرنسي أوغيست رودان (نوفمبر/تشرين الثاني 1840 ـ نوفمبر 1917)، وبحثا في أُفقِ حياته الشخصية عمّا كان له أثرٌ بيِّنٌ في نتاجه الفنيّ، وبمناسبة افتتاح موقع افتراضي يَعرِض أعمال عشيقته الفنانة كاميل كلوديل (ديسمبر/كانون الأول 1864 – أكتوبر/تشرين الأول 1943) التي سبق أن أُقيم لها متحفٌ فنّيٌ في باريس في ربيع عام 2017، جمعنا هنا بعضا ممّا كُتب عن حياة هذه الفنانة التشكيلية بكلّ نجاحاتها وإخفاقاتها.

بطلة درامية

تُعبِّر مقولة كاميل كلوديل: «يُعذبني شيءٌ مّا غائبٌ دوما» أبلغ تعبير عن ذلك التشظّي المادي والنفسي، الذي آلت إليه حياتُها بعد سنوات من الإبداع الفني، ومن عشق معلّمها رودان. هذه البطلة الدرامية هي نحاتة فرنسية تنتمي إلى أسرة بورجوازية، وهي أخت الشاعر والأكاديمي والدبلوماسي بول كلوديل. أغرمت منذ طفولتها بفن النحت، واسترعت منحوتاتها الطينية انتباه الرسام والنحات الفرنسي ألفريد بوشي، فأقنعها، كما ورد في كتاب جانيت سوتر المعنون بـ«كاميل كلوديل»، بأن موهبتها استثنائية، ونصح والدها بأن يسمح لها بممارسة ذلك الفن. في عام 1882، انتقلت الأسرة إلى باريس لأن كاميل قررت أن تجعل من النحت، الذي كانت أمها تمقتُه، مهنتَها. هناك، أخذت الشابة كاميل دروسا في أكاديمية كولاروسي وأنشأت ورشتها الأولى. عملت خلال تلك السنة ضمن مجموعة من الفنانات الشابّات تحت إشراف الفنان ألفريد بوشي، الذي ألهمته تمثال «شابة تقرأ» ووقعه بـ«إلى كاميل كلوديل تذكار من ألفريد بوشي». في نهاية السنة، طلب هذا الأخير من أوغيست رودان أن يُعوضه في دروس النحت التي يقدمها لهؤلاء الشابات، لأنه مُجْبر على السفر إلى روما، وهكذا تعرفت كلوديل سنة 1883 وكان عمرها آنذاك تسعة عشر عاما على الفنان رودان الذي كان يكبرها بتسع وعشرين سنة، وأصبحت تلميذته.

حبّ عاصف

أثارت أعمال كاميل كلوديل الفنية الأولى إعجاب رودان، مثل «العجوز هيلين» و«بول ذو 13 سنة» وهي منحوتات يظهر فيها التأثير الواقعي والتعبيري لمعلّمها، مع لمسة كلاسيكية وتأريخية خاصة بها. وبسبب ذلك، ضمّها إلى مجموعة مساعديه ومن ثمّ شاركت في العديد من أعماله. وقد أكّد ذلك حين قال: «صارت الآنسة كلوديل مساعدتي الرائعة. أستشيرها في كل شيء» ويضيف لمن كانوا ينتقدونها «حَدّدتُ لها مكان الذَّهَب لكن الذهبَ الذي وجدَتْه كان لها وحدها». خلقت عبقريةُ هذه النحاتة الشابة وموهبتُها الأصيلة وعزيمتُها القوية وذلك التوافقُ الفني الذي نشأ بينها وبين معلّمها تواطؤا وحميمية سرعان ما جعلاها تتحول إلى ملهمة له ومُوديلا فنيا لخياله، ثم عشيقته الحميمة. استمرت قصة حبهما العاصف عشر سنوات. ولئن لم تنته تلك العلاقة بالزواج، رغم وجود حمل متكرر يؤكده أخوها الشاعر والسفير بول كلوديل في إحدى رسائله سنة 1939 لصديقته ماري رومان رولان قائلا إن أخته أجهضت بجنين سنة قطيعتها مع رودان، وأن بقاءها في مستشفى المجانين هو تكفير عن ذنوبها. وذكر سيرج جيرار في كتابه «رودان الرجل البرونزي» أنه «عند قراءة مذكرات جيسي ليبسكومب نكتشف أن كاميل أجهضت مرات كثيرة»، غير أن تلك العلاقة العشقية المضطربة أثمرت عدة أعمال فنية خالدة، يظهر فيها بجلاء تأثّر كل منهما بالآخر. فمن جهة، كان رودان معجبا بوجه كاميل، واستلهم منه عدة بورتريهات من بينها منحوتة «الفجر أو فرنسا « إضافة إلى رائعته «القبلة». ومن جهة أخرى، أنجزت هي أيضا، في فورة عشقها له، ومتأثرة بأسلوبه، منحوتاتها الخالدة مثل «ساكونتالا» التي استمرت في العمل عليها لعامين، وعندما عُرِضت تلك المنحوتة سنة 1888 لاقت قبولا جيدا من الجمهور والنقاد، ومنحوتة «الشابة حاملة رزمة القمح» التي أعتُبِرت كنزا وطنيا سنة 2003.

أثارت أعمال كاميل كلوديل الفنية الأولى إعجاب رودان، مثل «العجوز هيلين» و«بول ذو 13 سنة» وهي منحوتات يظهر فيها التأثير الواقعي والتعبيري لمعلّمها، مع لمسة كلاسيكية وتأريخية خاصة بها.

الخذلان

بداية من 1893، وحفاظا على مكانته الاجتماعية، بدأ رودان يبتعد عن كاميل، مفضّلا البقاء مع صديقته السابقة روز بيريه، وعاش معها طيلة تلك الفترة وهو أمر يؤكده قول صديقه أنطوان بورديل حين تمّ تقليد رودان وسام «فيلق الشرف» سنة 1903: «أرفع الكأس لأشرب نخبك، يا رودان، يا أبا العواطف الجياشة ويا أبا الدموع… يا أيها العائد إلينا من الجحيم». وواصل تلبية الطلبات الرسمية التي كانت تنهمر عليه، بل أقام علاقة جديدة مع تلميذة أخرى تدعى صوفي بوستولسكا بين السنوات (1898 إلى 1905). في حين كان يتنازع كاميل السعيُ إلى الاستقلال الفني والرغبةُ في الزواج منه. وهو زواج وعدها به رودان مرارا، لكنه كان يتراجع عنه في كل مرة. أثناء ذلك الفراق التدريجي، صارت كاميل تُعبّر عن رفضها لانتهازيته وسطوة شهرته التي جعلت أغلب إنجازاتها تُعتَبَر من صنعه هو أو بإلهام منه. وللاستقلال التام عنه بل ولتجاوزه أيضا، كان لديها، كما قالت لأخيها بول: «الكثير من الأفكار الجديدة التي لا تشبه إطلاقا عمل رودان»، وسعت إلى إنجازها في منحوتات رائعة على غرار «المثرثرات 1893» و«فارتومن وبومون 1905» وعازفة الناي 1905» و«الموجة 1897». وبسبب تفاقم العوز المادي وعدم تلقيها لأي طلبات عمل ومقاطعة أسرتها لها بعد وفاة والدها، حاميها الأوحد، تنامى شعورها بالغبن والإحباط، فسجنت نفسها في منزلها، وحوّلته إلى ورشة عمل، ثم بدأت تنتابها عوارض العُصاب بشكل متزايد، حتى أنها صارت تتهم رودان عندما يطرق باب بيتها بأنه يأتي لسرقة أعمالها. وفي فورة جنونها، حطمت جزءا من منحوتاتها الأخيرة وأتلفت كثيرا من مخطوطاتها التصويرية ومراسلاتها. وفي سنة 1913 وقّعت أمها، التي كانت علاقتها بها سيئة منذ الطفولة، على طلب إدخالها إلى مستشفى الطب النفسي، وطالبت بالتضييق عليها في الزيارات والمراسلات ورفضت عودتها إلى البيت بعد أن قرر الطبيب أنها قد تعافت. كما أنها لم تزرها إطلاقا في حين زارها أخوها بول 12 مرة، خلال الثلاثين سنة التي قضتها هناك. توفيت في 19 أكتوبر/تشرين الأول 1943 بسبب المجاعة ودفنت مع عدة جثث أخرى، لأن عائلتها رفضت استلام جثمانها.

كانت تشذّب موادها الأولية الصلبة بنفسها وتحفرها وتشكلها وتنحتها للحصول على الحجم المناسب، راغبة في أن تحيا التحوّل البطيء للمواد الأولية بدون أن تستعين بأحد على عكس رودان.

أيقونة النحت

إن كاميل كلوديل فنانة رائدة على المستوى العالمي. كانت تشذّب موادها الأولية الصلبة بنفسها وتحفرها وتشكلها وتنحتها للحصول على الحجم المناسب، راغبة في أن تحيا التحوّل البطيء للمواد الأولية بدون أن تستعين بأحد على عكس رودان، وعلى عكسه أيضا، تخلت بعد قطيعتها معه عن الانطباعية في النحت أي عن النمذجة التعبيرية للجسد العاري المميزة له، وأقامت في منحوتاتها علاقة بين الطبيعانية والرمزية، وعملت من ناحية أخرى على مواد صلبة مثل الرخام والعقيق في تركيبات مختلطة واعتمدت نوعا من التصميم غير المتناظر ولا المتوازن، خاصة في كل المنحوتات السير- ذاتية التي بلغت حميمية لم يتأتَّ لأحد غيرها بلوغها، مثل «المتوسّلة» و«عصر النضوج» بنسختيها ومنحوتة «الفالس» (1895) التي توجد منها عدة نسخ. وتبدو تلك المنحوتات لرائيها، كما لو أنها ستتهاوى، لأن فيها عدم ارتكاز يجذب نظر المشاهد ويأسره، كما يُعبر عن التمزق الداخلي لهذه الفنانة. إن القوة الملحمية والحس المرهف ومأساوية المشهد والإتقان التام لتقنية التعبير عن التفاصيل هي الأدلة الحسية على مقدرتها الفنية الفائقة، وهو ما جعل عملها أصيلا في تاريخ النحت، مقارنة بعمل معلمها الشهير الذي سيبقى في نظر نقّاد فنّ النحت كلاسيكيا وحسب.

٭ كاتب تونسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق