مقالات

التحرش الجنسي: تهمة يسهل توجيهها وجريمة يصعب إثباتها

مشروع قانون يتعلق بالقضاء على العنف ضدّ المرأة صادق عليه مجلس الوزراء، يثير جدلا واسعا في تونس، في وقت ازدادت فيه ظاهرة التحرش الجنسي بشكل واسع في جميع بلدان العالم.

خيط دقيق يفصل بين العنف اللفظي والغزل المباح
أثار في الأيام الأخيرة مشروع قانون يتعلق بالقضاء على العنف ضدّ المرأة وقد صادق عليه مجلس الوزراء، جدلا واسعا في تونس، واعتبره البعض “تضييقا جديدا على الرجل، ومساحة أوسع للمرأة حتى تفعل ما تريد”، في حين عدّه آخرون “استحقاقا ومناصرة للمرأة التي تتعرض للعنف والاضطهاد، سواء في الأماكن العامة أو حتى في العمل وداخل البيوت”.

واقترح القانون الجديد كذلك عقابا بتغريم المتحرّش بمبلغ ألفي دينار (1000 دولار أميركي) “كل من يتعمد التمييز في الأجرة أو الراتب عن عمل متساوي القيمة على أساس الجنس، وتضاعف العقوبة في صورة التكرار أو العودة لنفس الفعل أو المحاولة مجددا”.

وشدّد على العقاب بالسجن لمدة عامين وبمخالفة تقدر بـ2500 دينار، لمرتكب التحرش الجنسي، وهو من بين الفصول الجديدة في المشروع الجديد.

ظاهرة التحرش الجنسي انتشرت بشكل واسع في جميع بلدان العالم، ورغم كل المحاولات لصدها، فهي في تزايد مستمر، والتحرش الجنسي هو محاولة استثارة امرأة أو طفل جنسيّا دون رغبة الطرف الآخر، ويشمل اللمس أو الكلام أو المحادثات الهاتفية أو المجاملات غير البريئة. ويحدث التحرش عادة من رجل في موقع القوة بالنسبة للأنثى، أو للطفل، مثل المدرس والتلميذة، الطبيب والمريضة، ولكن الحالات الأكثر والأغلب هي التي تحدث في مكان العمل.

ووفق تعريف الأمم المتحدة فإنّ التحرش الجنسي هو “أي تلميح جنسي غير مرحب به، وأي طلب جنسي أو سلوك لفظي أو جسدي، أو إيماءة ذات طابع جنسي، وأي سلوكٍ آخر ذي طابع جنسي، قد يتسبب بالإساءة أو إذلال الشخص الآخر أو المس بكرامته. أو عندما يكون هذا السلوك شرطا للعمل أو يخلق بيئة عدوانية وغير آمنة للشخص الآخر”.

وبالعودة إلى تطور قانون إدانة وتجريم التحرش الجنسي، كان لا بد من رصد تطوره عالميا في العقود الأخيرة، ففي عام 1986، ظهر مفهوم «البيئة العدائية»، وذلك بعد أن رفعت ميشيل فينسون، قضية ضد نائب رئيس بنك «ميريتور» للادخار بعد أن أجبرها على علاقة جنسية لفترة طويلة كانت في البداية سرية ثم بدأ في ملاحقتها أمام زملائها في العمل، وعندما رفضت طـردها، وأشارت فينسون إلى أن هذا خلق بيئة عمل عدوانية ونوعا من التمييز غير القانوني.

وبمقتضى هذه القضية، حددت المحكمة العليا الأميركية مفهوم التحرش باعتباره انتهاكا لقانون الحقوق المدنية. وفي عام 1991، وسع قانون الحقوق المدنية، حقوق المرأة للمطالبة بتعويضات عن التمييز أو التحرش. وتحوّل معيار «المرأة المسؤولة» إلى قانون بفضل قضية مشهورة لسيدة تدعى إليسون برادي.

المعترضون والمتحفظون على ما اعتبروه “تشددا مبالغا فيه” حول قانون التحرش الجنسي، يستندون إلى أن خيطا رقيقا ودقيقا يفصل بين الغزل والملاطفة من جهة وبين التحرش الموصوف بالعنف والعدائية من جهة ثانية، وحجة هؤلاء أن التاريخ والثقافة العربية يسمحان بنوع من المغازلات والملاطفات بين الجنسين بل ويعتبرانه ضربا من الفروسية التي تقتضيها الأخلاق السائدة شرط أن يتم في بيئة نظيفة تقدر القيم النبيلة.

لكن الحقوقيين يقولون إنه ليس هناك تعريفٌ علمي محدّد للغزل، نظرا إلى تعريفه الواسع والمرتبط بالعلاقة بين كل شخصين. ووفق صحيفة “ذا غادريان” البريطانية، فإن أفعال الغزل والتحرش الجنسي قد تكون قريبة من بعضها بشرط واحد، أنها في التحرّش الجنسي تكون بغير رضا الطرف الآخر وغصبا عنه وعواقبها النفسية والجسدية قد تكون وخيمة، أما الغزل فيكون بالتراضي بين الطرفين. وتطرح الناشطة النسوية لورا بايتس، مجموعة أسئلة تفترض أنه يجب على الرجل أن يطرحها على نفسه لمعرفة إن كان ما يقوم به تحرّشا أم غزلا وهي: هل الطريقة التي أغازل بها الشخص الآخر قد تخيفه، هل سبق للشخص أن أوضح لي أنه لا يرغب في أي علاقة معي، وهل ظروف تقربي من الشخص الآخر غير مناسبة لهذا النوع من الفعل أو الكلام؟

وبناء على ما سبق، فإنّ أي فعل جنسي لا يرضى به الشخص الآخر أو يعبّر عن امتعاضه منه يدخل في خانة التحرش الجنسي، تحديدا في حال تكرار فعل قد يكون “مبهما” مثل المغازلة الكلامية.

تتجه السعودية إلى التشديد على عقوبة التحرش بإصدار قرار بالحبس 5 سنوات، بالإضافة إلى غرامة مقدارها 500 ألف ريال سعودي في محاولة لردع التحرش، وهذا القرار يشمل الفتاة المتغنجة لأنها في نظر القانون متحرشة وتعاقب، خاصة بعد انتشار عدد كبير من حالات التحرش في السعودية.

قوانين تتصدى لذهنية الاستباحة
ضرورة وجود قانون يقوى من الحلقة الأضعف في المجتمع
ضرورة وجود قانون يقوى من الحلقة الأضعف في المجتمع
الغريب في الأمر أن غالبية في العالم العربي -بما في ذلك الفئات المحسوبة على النخب الثقافية- تدين التحرش الجنسي هكذا وفي ظاهر الكلمة، لكنها لا تدرك التفرعات الجزئية التي تحيط بتعريفه، وتعتبره مثل الاعتداء الجنسي الموصوف والصريح، فيقدم أشخاص على ممارسة التحرش الجنسي معتبرين أفعالهم تلك مجرد ملاطفات أو مغـازلات تمليها الأمزجة وتسمح بها الظروف.

لذلك كان ومن المفيد إعادة التذكير بتوصيف التحرش الجنسي، ووفق تعريف الأمم المتحدة فإن التحرش الجنسي هو: أي تلميح جنسي غير مرحب به، وأي طلب جنسي أو سلوك لفظي أو جسدي، أو إيماءة ذات طابع جنسي، وأي سلوك آخر ذي طابع جنسي واضح أو موح، قد يتسبب في الإساءة أو إذلال الشخص الآخر أو المس بكرامته. أو عندما يكون هذا السلوك شرطا للعمل أو يخلق بيئة عدوانية وغير آمنة للشخص الآخر.

وقد يحصل التحرش بين شخصين من جنسين مختلفين أو بين شخصين من الجنس نفسه، وقد يحصل مرة واحدة فقط أو قد يكون متكررا.

وتشرح الأمم المتحدة بالتفصيل كلَّ الأفعال التي قد تعتبر تحرشا جنسيا، وهي: الاغتصاب أو محاولة الاغتصاب، اللمس غير المرغوب فيه من قبل الطرف الآخر، التواصل الإلكتروني الجنسي غير المرغوب فيه، النكت والدعابات والروايات الجنسية غير المرغوب في سماعها من الطرف الآخر، الأسئلة الشخصية عن الحياة الجنسية، القيام بحركات جنسية باليدين، النظر إلى الشخص الآخر بطريقة قد تجعله غير مرتاح، تحويل حديث عن العمل إلى حديث جنسي، مناداة الشخص الآخر بألقاب قد تكون مزعجة بالنسبة إليه وسؤال الشخص الآخر عن رغباته الجنسية.

التنقيحات والتعديلات التي أجرتها المنظومات التشريعية العربية في المدة الأخيرة حول القوانين المتعلقة بالتحرش الجنسي، توصف بالإيجابية والمشجعة، إذ اعتبرت هذا الفعل الشائن جريمة يعاقب عليها القانون الذي ينبغي أن يستوي تحت سقفه جميع الناس.

بالإضافة إلى صعوبة الإثبات بل استحالته، تدفع خطورة توجيه الاتهام من قبل الضحية بعض النساء إلى الامتناع عن التبليغ، حيث أن المشتكى به يحق له مقاضاة المشتكية من أجل الوشاية الكاذبة في حالة عدم القدرة على إثبات وقوع التحرش الجنسي ضد المتحرش.

يفيد التحقق من أسباب انتشار ظاهرة التحرش الجنسي بالمرأة والعنف ضدها في البلدان العربية، بأنها تعود أحيانا إلى سلبيتها وتجنبُها الحديث أو الإبلاغ عن تعرضِها للتحرشِ الجنسيِ والعنف في العمل، فضلا عن خشيتها من فقدان عملِها، مما يجعلُها تتحمل كل ما يصيبُها من أذى نفسي ومعنوي ومادي وكل ذلك في ظلِّ حاجتِها إلى المال والوظيفة. ويضاف إلى ذلك ضعف النص القانوني.

وهناك دراسات تربط بين التحرش الجنسي، وانتشار الفساد، وغياب الرقابة في العالم العربي، فالفساد المالي والإداري في بعض أماكن العمل في البلدان العربية يؤدي بصورة ما إلى الفساد الأخلاقي، خاصة وأن الكثير من حالات التحرش الجنسي ضد المرأة في العمل تنتج من رؤسائها الرجال، لما يتمتعون به من سلطـة ونفوذ وانعـدام الرقابة.

أمينة ل. أخصائية تربوية بالتعليم الثانوي في مدينة بنغازي الليبية، تشير إلى تفشي ظاهرة ما أسمته بـ“التحرش اللفظي” تقول “للأسف الشديد فإن أغلب الرجال الذين يعتمدون على هذا الأسلوب المراوغ في التعامل مع زميلاتهم هم فوق سن الأربعين وأغلبهم لا يقبل بعمل المرأة، لأن الشخص عندما يقوم بمعاكسة زميلة من زميلاته يتخيل زوجته في نفس الموقف معتقدا أن كل الرجال مثله”.

وتؤكد الأخصائية الاجتماعية أن المجتمع يرفض هذا الأسلوب مهما كان الهدف منه خصوصا أنه مجتمع محافظ وأكثر التزاما من مجتمعات عربية أخرى، وخصوصا في ما يتعلق بهكذا مواضيع.

وتنوّه أستاذة علم النفس إلى أن نسبة كبيرة من العاملات أو الموظفات هن متزوجات ولا يقبل أي زوج أن تعامل زوجته أو تتلقى أيّ مغازلة من شخص آخر ولو كان زميلا، وهنا تتجلى حقيقة عزوف الرجال أو الشباب عن الزواج من الموظفات أو عدم السماح للزوجات بالعمل خوفا عليهن من التعرض لمثل هذه المعاكسات.

ونوهت آمال، إلى أن استغلال خجل المرأة ومراعاتها للمحيط الاجتماعي في ما يخص الإبلاغ عن حالات التحرش قد زاد من الأمر سوء بالإضافة إلى الوضع الأمني السائد وسط صراع الميليشيات في ليبيا.

مزايدات حولت التهم إلى فخاخ
لا بد من افتراض النوايا الحسنة
لا بد من افتراض النوايا الحسنة
يقول أبوعدنان، وهو رجل دمشقي تجاوز السبعين من العمر، يعرف بروح الدعابة، ويعيش حاليا في بيروت “وفق قوانين التحرش الجنسي والمعمول بها في العالم الآن، فإن أغنيتي “حكيم عيون” لعبدالوهاب، و“فاتت جنبنا” لعبدالحليم، من الجرائم الموصوفة التي يجب أن يحاكم أصحابها، ويمنع تداولها بالنظر إلى مضمونها التحريضي المشجع والمبارك للتحرش الجنسي”.

ويعقب جليسه أبوإلياس، في إحدى مقاهي الروشة بالعاصمة اللبنانية، أن عظماء الشعر والفن الذين كتبوا أجمل قصائد الغزل عبر التاريخ، لم يدركوا أن بعض كلمات أغنياتهم وأعمالهم الأدبية “تقع تحت طائلة القانون” بمعايير زمننا هذا، وتحظرها النصوص المعدلة في السنوات الأخيرة والقاضية بتجريم عبارة ملاطفة خرجت من فم عاشق في لحظة صدق، وطربت لها أذن غانية في لحظة انتشاء ثم ما لبثت أن تحولت إلى جريمة اسمها التحرش الجنسي، وهي تهمة تطارد صاحبها وتعده ببئس المصير.

وبعيدا عن التناول الساخر لقوانين التحرش الجنسي التي باتت تتسابق في التكشير عن أنيابها وتضييق الخناق على كل حالة مغازلة أو ملاطفة بين رجل وامرأة فإن الكثير من المنتقدين لهذه المبالغات في النصوص التشريعية ذات الصلة، يرون أن من شأن هذه القوانين أن تخلط الحابل بالنابل، وتجعل من عبارات الغزل البريء تهمة تلاحق صاحبها فتستحيل الحياة عندئذ إلى جملة من الأتعاب المحفوفة بالحذر والتوثب بين الجنسين.

لم يكن أبوعدنان، القادم من أزمنة الأناقة والفن الراقي والفروسية الأخلاقية يدرك أنه سيأتي فيه يوم ينفتح العالم على مصراعيه، ويصبح لديه تعريف واسع ومطاط لجريمة التحرش، تشمل من بين أنواعها الملاطفة التي نعتوها بـ“جريمة التحرش اللفظي” والتي هي في الأصل، لا تخرج كثيرا عما يقال في الروائع الأدبية والفنية، فما الذي جعل العالم يتجاهل أزمات العالم المفجعة والتي تبدأ من الحروب ولا تتوقف عند حدود الاحتباس الحراري، يتجاهل كل المصائب ويلتفت إلى تهمة يسهل توجيهها ويصعب إثباتها ويسمونها التحرش الجنسي.

ليس الأمر استهتارا بجريمة تستنكرها جميع الأعراف والقوانين، وتدينها جميع النظم المناصرة للكرامة البشرية، لكن هذا السباق المحموم وهذه المزايدة في سن القوانين الرادعة لكل أشكال التحرش الجنسي، تضمر نوعا من التساؤل عن مدى جدية وفاعلية هذه التشريعات، وعن النوايا التي تقف خلفها، خصوصا إذا علمنا بأن تهم التحرش الجنسي في دول غربية كثيرة أصبحت فخاخا تنصب للمشاهير في السياسة والفن والرياضة والإعلام.

أنواع التحرش أو أشكاله تتفاوت ما بين التحرش البدني أو طلب المواعدة أو العروض المختلفة، وتصل في أدنى مستوياتها إلى مجرد تعبيرات الوجه والنظر المتفحص لجسم شخص ما، أو حتى تركيز النظر على عينيه، بل ويصل الأمر إلى أن البعض يرى أن كل ما يغضب المرأة من كلمات وأفعال تحرش. كما أن أبحاثا واستطلاعات كثيرة قد تجاهلت تحرش المرأة بالرجل خصوصا في المؤسسات التي تكون فيها المرأة في منصب المدير أو رب العمل.

وبعد أن بات التحرش أحد أشهر عناوين وسائل الإعلام العالمية خلال الفترة الماضية، أثير جدل كبير حول القوانين التي تحارب التحرش، وعما إذا كانت تكفي، أو بالعكس، تفتح باب الضغط والابتزاز، خاصة بعد أن ظهر في فضائح التحرش الأخيرة في البرلمان البريطاني والبرلمان الأوروبي وهوليوود.

الجمهور العريض من الذين يلتمسون الذرائع للمتهمين بالتحرش أو يقللون من تفاقم هذه الظاهرة، يسوقون مجموعة من الأعذار والتبريرات تبدو متشابهة ولا تخلو من غرابة.

في تونس ترى آمال الأطرش، موظفة علاقات عامة في مؤسسة سياحية بتونس، أنه يوجد فرق بين المعاكسة ذات الطابع العدائي والحاد، والتي هي أقرب إلى التحرش، وبين المجاملة الرقيقة والكلمة اللطيفة التي من شأنها أن تدخل السرور والبهجة إلى النفس. وتعلق الموظفة ذات الثلاثين عاما، على التعديلات المتشددة في ما يخص قانون التحرش بقولها “هناك مبالغات في بعض الفقرات التي من شأنها أن تجعل هذا القانون سيفا مسلطا على رقاب جميع الرجال، وتسهم في استخدامه بطرق كيدية وظالمة ثم أنه يتعارض نوعا ما مع طبيعة وظيفتنا التي لا يمكنها الاستغناء عن عبارات المجاملة لدى زبائننا ونزلائنا”.

وتشاركها زميلتها سلمى، في رأيها مضيفة وهي تبتسم “هذا القانون سوف يزيد في نسب العنوسة والعزوف عن الزواج، ذلك أن العلاقات الزوجية السعيدة كثيرا ما تبدأ بكلمة مغازلة أو حتى معاكسة من النوع الخفيف.. هذه المعاكسة قد تؤدي بعريس المستقبل المفترض إلى خلف القضبان”.

المصدر : العرب

حكيم مرزوقي كاتب تونسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق