ثقافه وفكر حر

الشعر الحر وما أشبه

imageالشعر الحرّ… وما أشبه
عبد الواحد لؤلؤة
,

لا أستطيع ان أعثر على تفسير عقلي.. أو نقلي، لشيوع تلك الحكمة المعطوبة: خطأ شائع، خير من صحيح مهجور، إلا اذا كانت من نوع ما وصفه الخالد نزار: نقعُد في المساجد/تنابلاً كُسالى/نخمّس الأشعار/أو نُشطّر الأمثالا… أو شيء من هذا القبيل، عند ادباء، ليس في وسعهم كدّ الذهن، والعودة إلى اللغة في جذورها وقواعدها.
هذا ما أتذكّره دوماً عند ذكر الشعر الحر، في كتابات المتأدبين العرب في أكثر من نصف قرن مضى. أطلقت هذه التسمية الخطأ المرحومة نازك الملائكة في مقدمة ديوانها الثاني «شظايا ورماد» 1949، وحدّدت لولادة الشعر الحر، في « يوم الثلاثاء 27 تشرين الاول 1947 بالذات.. في ضحاه «. ومثّلت لذلك في قصيدتها «الكوليرا» كما يعرف المتابعون لتطور الشعر العربي الحديث. ولكن تلك القصيدة تعتمد الوزن الخليلي التراثي، ولو بتغيير عدد تفعيلات، كما تعتمد القافية، ولو بتواتر، في آخر الأسطر/الأبيات. هذا لا يجعل القصيدة من «الشعر الحر» بمعناه الدقيق، كما اوجده الشاعر الامريكي «والت وتمان»، في مجموعة «أوراق العُشب» 1855. وأنا أعجب كيف تجاوزت نازك هذه الحقيقة، وهي التي حصلت على الماجستير من جامعة وسكونسن الامريكية في «الأدب المقارن». وكنت أناقشها في ذلك أثناء زمالتنا في كلية الآداب ببغداد، وبعدها في جامعة الكويت، وهي تصرّ على التسمية، التي شاعت خطأ، دون الصحيح المهجور، حتى استقامت تسمية «شعر التفعيلة» خلطاً جديداً مع تسمية الشعر الحر.. فأين المفر؟
الواقع أن وتمان قال free verse ولم يقل free poetry ولكن الكلمتين تعنيان «شعر» في العربية، وهذا سبب المشكلة التي كان يمكن لنازك وغيرها تجنّبها بالعودة إلى وصف أمين الريحاني في مُغتربه الأمريكي حينما قال عن «أوراق العشب» إنها «شعر منثور» وذلك عام 1923، وبذلك لا نغمط النَفَس الشعري في عمل وتمان، ومن تبعه في أمريكا، وفي المستورد منه إلى فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر باسم vers libre وليس poésie libre، فلماذا شاعت عندنا التسمية الخطأ؟
والواقع أن الشعر الحر في العربية ظهرت أول أمثلته في مجلة «الأديب» البيروتية لصاحبها ألبير أديب. ثم ظهرت مجموعات من الشعر الحر في العربية في مجموعات لأدباء كبار منذ منتصف القرن العشرين فصاعداً مثل جبرا ابراهيم جبرا: المدار المغلق، لوعة الشمس، تموز في المدينة، وغيرها. كما نشر توفيق صايغ مجموعة من الشعر الحر بعنوان: القصيدة ك، بضعة أسئلة لأطرحها على الكركدن، وغيرها. وربما كان آخر الأمثلة المهمة من الشعر الحر في العربية أعمال المغربي محمد بنيس: في اتجاه صوتك العمودي، ما قبل الكلام، مواسم الشرق، وغيرها. والمهم ملاحظته عند أصحاب الشعر الحر أنهم أصحاب ثقافة عالية في اللغات الأوروبية: الانكليزية أو الفرنسية، لذلك يبدو شعرهم الحر أشبه بالمترجم عن لغة أجنبية، لكنه يتطلب كثيراً من التأمل لاكتِناه الصوَر والإحالات إلى شعراء من لغات أخرى قد لا تكون مُتاحة لأغلب القرّاء. ومن هنا جاء الهجوم غير المنصف على هذا النوع الدخيل من الشعر على ثقافتنا العربية، التي لا تجد في الشعر سوى الوزن والقافية أساساً للأفكار والصور، ومن هنا كذلك كثرة أصحاب المواهب الفقيرة، أو اللامواهب، الذين وجدوا في رصف الأسطر دون وزن ولا قافية مركباً سهلا لرصف أسطر يُراد لها أن تُدعى شعراً. والأمثلة كثيرة. ولكن هذه بعض أمثلة الشعر الحر الجيد، رغم خلوها من الوزن والقافية:
جيلُ المأساة نحن، وعن وعي نتقبّلها:
جيلٌ عاصرت أرضُه كل دوراتِ الزمن
فوعى العصورَ كلّها،
عرفَ الزمان مُضاعفاً
ضارباً عمقاً وعلوا،
عاشه عاشقاً متمرداً
ويعيشه كل يوم صارخاً، متحدياً.
جبرا: لوعة الشمس 1978
وهذا مثال من محمد بنّيس: «رؤيا في الماء»
سَبوُ أعطاني الأنسَ
الفُراتُ المحبّةَ
النّيلُ الصداقة
ثم استأنفتُ التنقلَ من مركبٍ إلى مركب
في مسافةٍ تكشِف لي عن مسافة.
نهرٌ بين جنازتين،2000
وأحياناً نجد كاتب الشعر الحر يحنّ إلى تراثه العربي من الوزن والقافية، فتجدهما في أسطر الشعر الحر، مما يضيف جمالاً على الصورة، كما نجد في أمثلة كثيرة عند بنّيس. لكن شعر التفعيلة قد تطوّر كثيراً عند شعراء الحداثة بعد نازك، فنجد أمثلة منه تتناول موضوعات اجتماعية وسياسية لم تُعد وقفاً على الشعر التراثي، الذي نجد أفضل أمثلته عند الجواهري مثلاً. في شعر بدر كثير من تلك الأمثلة، يرنّ فيها الوزن وتوشّحه القافية، كما في «أنشودة المطر»، و»المومس العمياء»، لكن الشعر الحر الذي يخلو من الوزن والقافية، يبقى دون أمثلة شعر التفعيلة في شعرنا العربي المعاصر. هذه أول أمثلة الشعر الحر عند «وتمان» في مجموعة «أوراق العشب»: أغنية نفسي:
أحتفلُ بنفسي، وأغني نفسي،
وما أفترض عليكَ أن تفترض،
لكل ذرّةٍ تعود إليّ كما تعود إليك.
أتمشى وأدعو روحي
أميل وأتمشى على مهل مكتشفاً نبعةً من عُشبة صيف..
لا أدري كم من القرّاء العرب المهتمين بهذا النمط من الشعر الأمريكي قد أفاد منه دون الشكل الذي سهّل لبعضهم الكتابة على منواله، بدرجات متفاوتة من التوفيق. وابنة عمّ الشعر الحرّ هي «قصيدة النثر» وهي مستورد فرنسي هذه المرة، من شعراء نهايات القرن التاسع عشر poème en prose. هذه أسطر من نثر يحمل شحنات شعرية، قد تمتد إلى فقرة أو أكثر، أو إلى صفحة أو أكثر. وقد برع فيها المغاربة، بحكم اقترابهم من الشعر الفرنسي، ونجد محاكاة له عند شعراء لبنان في ستينات القرن الماضي، نُشرت أمثلة منه في مجلة «شعر» بإدارة يوسف الخال، وأعطوها إسماً معرّبا هو «شعرٌ بنثر» ترجمة تعاني من الإفتعال في نقل المصطلح الفرنسي. لم تدم هذه «الصرعة» طويلاً لأن ذائقة الشعر العربي إذ ابتعدت عن «فعولن، مفاعيلن» فإنها ما تزال تترنح تحت وزن وقافية قصيدة التفعيلة. وثمة فتحة نور تطل على الشعر الموزون المقفى من جهة وعلى النثر المموسَق من جهة أخرى في إنشاء شعري يستغرق صفحة أو مجموعة مقاطع يتخللها بعض الدفقات من شعر التفعيلة. ثانية، أحسب أن أفضل ما لديّ من أمثلة هي أعمال المغربي محمد بنّيس، «مطرٌ من الكلماتِ يسقطُ مائلاً أو هكذا يبدو يُحرّضُ دهشةً وأنا أقارن كُتلة الثلج البعيدة بانخفاض الضوء ثمةَ صورةٌ عصيتْ تشبّثْ باختلال توازنٍ في الريح مدخنة تحاذي الماء تكسِرُ بالهبوب بُخارَها»
هذا هو المقطع الثاني من خمسة مقاطع من قصيدة النثر هذه بعنوان «ماضي ويرجع» (الأعمال الشعرية، 2، سنة 2002) يلاحظ غياب التنقيط في هذه الصورة الممتدة على وزن «متفاعلن». قصيدة موزونة لكنها منثورة والمطلوب دائما الموهبة والذائقة الشعرية.

مقالات ذات صلة

إغلاق