مقالات

ظاهرة “الإسلاموفوبيا” في الوطن العربي / أ / م عبد الحفيظ اغبارية

ظاهرة “الإسلاموفوبيا” في الوطن العربي:
مع صدمة احتكاكه بالغرب قبل قرابة القرنين، بات المجتمع العربي يعاني حالة من الانفصام والانشطار الحضاري، تتجسد وعلى شتى المستويات في سائر أنساق حياة ذلك المجتمع وتفاعلات أبنائه. فبات أسير التخبط والاضطراب والتصارع بين تيارين رئيسين يتنازعان الساحة: تيار إسلامي يعبر عن الفهم الذي حمله المسلمون للإسلام منذ وجد، الذي يدعو إلى جعل الشريعة مرجعية حاكمة وموجهة لسائر شؤون المجتمع، وتيار علماني ينادي بإقصاء الدين عن التدخل في مسائل إدارة المجتمع وتسيير أموره، ناظراً إليه ـ في أفضل الأحوال ـ باعتباره شأناً شخصياً بين الإنسان وربه، بما يذكر، إلى حد بعيد، بوجهة النظر السائدة عن طبيعة الدين في المجتمعات الغربية.
وبطبيعة الحال، وبحكم استلهام منطلقاته ومقولاته المرجعية الرامية إلى تحييد المكون الديني من معين التجربة الغربية، ومحاولة إسقاط تلك التجربة على الواقع الإسلامي، دون الأخذ بعين الاعتبار مواطن الاختلاف ومواضع الخصوصية بين التجربتين الإسلامية والغربية، لم يكن للتيار العلماني إلا أن يتورط ـ بصورة واعية أحياناً وغير واعية أحيان أخرى ـ في تبني كثير من المقولات التي يتبناها الغرب حيال الإسلام. ومن هنا يمكن تفسير معاناة أصحاب الاتجاه العلماني في الوطن العربي من ظاهرة الخوف المرضي من الإسلام، التي لا تتردد في التعبير عن نفسها، بصورة عدائية أحياناً، كلما نجح الاتجاه الإسلامي في إحراز نصر سياسي هنا أو هناك، كما شهدنا عند حصول حركة الإخوان المسلمين في مصر على نسبة معتبرة من مقاعد المجلس التشريعي في الانتخابات التي أجريت في شهر كانون الأول من عام 2005 ،وبعيداً عن اللجوء إلى توظيف نظرية المؤامرة، والافتراض بأن بعض أرباب الاتجاه العلماني ومروجيه يرتبطون بعلاقات نفعية ـ بصورة غير واعية أحياناً ـ مع بعض الدوائر الغربية ،فإن المرء لا يحتاج إلى كثير من التدقيق كي يلاحظ قدراً كبيراً من الالتقاء بين المخاوف التي يحملها العلماني في الوطن العربي من الإسلام، وتلك التي يتم تداولها على نطاق واسع في الأوساط الغربية، وكأن الأولى مستمدة في أصلها من الثانية!. فالإسلام في وعي كثير من العلمانيين العرب، بوجه عام، عصي على الانسجام مع الديموقراطية ومقتضياتها، وبعيد عن الإقرار بحقوق المرأة ومساواتها بالرجل، وقصي عن احترام حقوق الأقليات غير المسلمة، وقاصر عن امتلاك أو تطوير برامج عملية ناجعة للتعامل مع قضايا العصر …
الخــاتمــــة:
معقدة العناصر ومتشعبة الأبعاد ومتداخلة الارتباطات وعميقة الآثار هي ظاهرة الخوف من الإسلام. ومن ثم فإن التعامل مع تلك الظاهرة يستوجب تضافر كل الجهود الممكنة في العالم الإسلامي من أجل الخروج باستراتيجية شاملة، ترتقي بإحكامها وتماسكها وإحاطتها إلى مستوى تلك الظاهرة البلغة الخطورة، التي تقف عقبة جدية أمام تمكن دول ذلك العالم من إقامة علاقات إيجابية سليمة، ليس مع بقية دول العالم، وبخاصة الدول الغربية، وحسب، بل فيما بينها ومع أبنائها أيضاً.
غير أن الخروج بتلك الإستراتيجية المنشودة يستوجب العمل على تحديد معالم المنظومة المرجعية المتماسكة والموحدة التي ستنظم سبل التعامل مع تلك الظاهرة، وتضمن الانطلاق في ذلك من صف متضامن موحد. إذ إن من المستبعد أن يتمكن العالم الإسلامي من مجابهة وعلاج ظاهرة خوف الآخر من الإسلام، ما زال هو نفسه يختبر الظاهرة نفسها في ربوعه!. وعلى الرغم من إقرارنا بصعوبة الاتفاق على مثل تلك المرجعية المتوخاة، إلا أننا نزعم أن الخطوة الأولى إلى ذلك تتمثل في وجوب الإقرار الفعلي من جانب المجتمعات الإسلامية بأن الإسلام، بثوابته وأصوله العامة، هو الإطار العريض الذي يحتضن تلك المرجعية ويحتوي قواعدها. إذ يغدو انتساب تلك المجتمعات إلى الإسلام واعتبارها (مجتمعات إسلامية) محض لغو لا طائل منه، ما لم يشكل الإسلام بالفعل الأرضية التي تنطلق منها في تعريف نفسها وتحديد هويتها الحضارية، مقارنة بالهويات الحضارية الأخرى.
إن إقرار أبناء المجتمع العربي الإسلامي بأنهم أبناء حضارة عربية إسلامية حقاً، لا يعبر، فيما هو مفترض، عن مجرد شعارات مثالية خالية من الدلالة، يتم ترديدها بلا روح في الخطب والمؤتمرات. بل ينبغي أن يعبر عن هوية حقيقية تتم ترجمتها إلى أفعال ملموسة، تقضي بأن تكون ثوابت تلك الحضارة وأصولها وقواعدها الكلية هي الإطار الذي يستلهم منه أبناء تلك الحضارة رؤيتهم للواقع وسبل فهمهم له وتعاملهم معه. وهذا هو السبيل الأمثل، فيما نزعم، لإبراز الهوية الحضارية المتميزة للإسلام، وصونها من أخطار التهميش والتشويه.
وتشكل تلك الثوابت والأصول والقواعد الأنموذج المرجعي الذي يحتكم إليه أبناء الحضارة في تشكيل نظرتهم إلى الوجود وموقفهم منه، وفي إسباغ المعاني والدلالات على موجودات هذا الكون، بما يتصل بذلك من مسائل بالغة الأهمية، تتعلق بمفهوم الإنسان نفسه، وأسباب وجوده، ومواصفات دوره الحياتي، وعلاقته بتفسه وبالآخر وبالطبيعة… الخ.
ويجسد ذلك الأنموذج حضوراً واضحاً يحل في سائر أنشطة المجتمع الذي يقر بتبنيه، فنستطيع تحسس آثارة جلية في كل بعد من أبعاد الحياة في ذلك المجتمع، ونراه علامة فارقة مميزة في الآداب والفنون وطرق العيش ووتائر التفاعل والسلوك. ومن هنا تظهر إمكانية الحديث عن حضارات متمايزة، يصدر كل منها عن أنموذج موجه له سمات خاصة، تضفي عليه التميز والاختلاف عن بقية الحضارات، وتمنحه هويته وشخصيته المتفردة.
والإسلام، وهو الذي وقف خلف صنع حضارة بالغة الفرادة والقوة والرقي والتميز، لم يأت ليكون مجرد دين روحاني لا شأن له إلا بأمور الآخرة والاعتكاف في انتظارها. بل جاء ليكون ديناً شمولياً ـ ليس بالمعنى السلبي للشمولية الذي أثر عن الأنظمة الاشتراكية الآفلة ـ ينظّم لأتباعه كل جوانب حياتهم: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والروحية، والحضارة المبدعة التي تشكلت في رحم ذلك الدين شاهدة على ذلك!.
وعليه؛ فقد يكون من أفضل السبل لمواجهة ظاهرة الخوف من الإسلام بعث الحياة في الجوانب الحضارية لذلك الدين، عبر إبراز أبعاده المشرقة وتجليتها للعالم، وفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، انطلاقاً من منطق المبادرة الفاعلة الواثقة بقوة هذا الدين وإمكاناته الرحبة غير المتناهية، وليس من منطق ردة الفعل الاعتذارية الخجولة، الذي يحكم حتى الآن تفاعل العالم الإسلامي مع معظم التحديات التي تعترض سبيل تقدمه!.
إن هناك حاجة ملحة للتعرف إلى الإسلام، من جانب أبنائه أولاً، تمهيداً لتعريف العالم به. وهذا يتطلب جهوداً حثيثة صادقة من لدن الحكومات الإسلامية لتعريف الناس بجوهر دينهم وتعاليمه الحقيقية. مع ما يرتبط بذلك من وجوب وضع تلك التعاليم موضع التطبيق الفعلي، سعياً إلى تجاوز حالة النفاق والتذبذب والتنافر المعرفي التي تعيشها المجتمعات الإسلامية، نتيجة التأرجح بين الإيمان بمبادئ عقدية وعدم القدرة على الالتزام السلوكي بها!.
وبكل تأكيد، فإنه ليس من الحكمة إحجام العالم الإسلامي عن تعريف أمم الأرض بالإسلام إلى أن يحسم مشكلاته الداخلية المتشابكة المتعلقة بهذا الدين. بل إن من الحكمة المسارعة إلى بذل قصارى الجهود الممكنة لتقديم الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة إلى أكبر عدد ممكن من الناس على امتداد المعمورة. إذ تثبت الآلاف المؤلفة من الذين يدخلون في الإسلام كل عام في أرجاء الأرض ـ على الرغم من الواقع المزري للمسلمين ـ أن البشرية التائهة تتعطش إلى التفيؤ تحت ظلال الدين الذي ارتضاه الله خاتماً للأديان والرسالات، بعد أن أضناها اللهاث في بيادي العبثية والعدمية والضلال.

مقالات ذات صلة

إغلاق