منوعات

النضال النسوي في سياق قومي

تحول يوم المرأة العالمي أو 8 آذار إلى طقس استهلاكي بدلا من أن يكون يوما للاحتفاء بنضال النساء وإنجازات الحركة النسوية في العالم. وتكرر وسائل الإعلام نشر تقارير عن إنجازات نساء في مجال الأعمال أو العلوم على وجه التحديد، وتتناول القضايا النسوية من الجانب الأسري أو الاجتماعي والاقتصادي. وإذا تناولته سياسيا، فتكون فيه المرأة ضحية للاحتلال أو الاستبداد، أي خاضعة وخانعة. لكن 8 آذار في الحقيقة هو مناسبة سياسية بالدرجة الأولى، ويجب أن تكون مناسبة لطرح القضية السياسية التي هي سبب الاستغلال والتمييز وإقصاء المرأة من الحيز العام والتضييق عليها في الحيز الخاص.

هذا ما استنتجته قبل 110 سنوات المناضلات في نيويورك من حركة ‘خبز وورود’ اللواتي خرجن من أجل تحسين شروط عملهن، لكن سرعان ما تحول ‘النضال الطبقي’ ومطالبهن العمالية إلى مطالب سياسية عينية وأولها الحق بالانتخاب، ويبدو أن ذلك كان إدراكا منهن بأن تحسين شروط العمل لا يأتي بهدف تحسين حياة المرأة العاملة وحريتها، بل بهدف تحسين ‘ظروف الاضطهاد’، بالتوازي مع رغبة أصحاب رأس المال بعدم الإضرار بعملية الإنتاج، أي أن تحسين شروط العمل كانت بهدف الربح وعدم ضرب المنتوج الصناعي وليس بدافع أخلاقي بحت.

تحول نضال الحركة النسوية حول العالم في العقود الأخيرة إلى نموذج ملهم لنضالات مختلفة، سواء كانت قومية أو سياسية أو اجتماعية – اقتصادية، إذ رافق هذا النضال تطوير نماذج فكرية نقدية وثورة تشريعية ما زال عالمنا العربي بحاجة إلى ترجمتها والاستفادة منها، لأنه بحق أصبح إرثا نضاليا بالإمكان وصفه بأنه أهم وأرقى إرث نضالي سياسي، وهو متنوع وغني ولا يمكن حصره بماركسية يسارية أو ليبرالية رأسمالية. وعلى الرغم من أن نضال الحركة النسوية صار ‘ما بعد سياسي’ في الغرب وتجاوز المطالب السياسية مثل الحق بالترشح والانتخاب والتمثيل الملائم في مؤسسات الدولة، فإنه في حالتنا العربية هو مطلب حداثي سياسي يصعب فيه فصل القضايا القومية والسياسية عن القضايا الاجتماعية والاقتصادية. وبهذا الشأن، تسرع بعض الحركات النسوية العربية، هنا في الداخل تحديدا، إلى تجاوز السياسي والقومي والانتقال بالنضال النسوي إلى مراحل ‘بوست قومية’، وهو ما يشرع الباب إلى انزلاق النضال النسوي ومطالبه إلى حالة مطلبية اندماجية على هامش المجتمع الإسرائيلي، وهذا أمر خطير يجب توضيحه، بأن مطالب الحركات النسوية على مر التاريخ لم تكن ‘مطالب اندماجية’ في مؤسسات عنصرية ذكورية أو استعمارية، ولو كانت هذه مطالبها لما حققت كل هذه الإنجازات. المطالب غير الاندماجية تحتاج إلى نضال جذري وفكر أذكى وأعمق لا يقع في مطب مطالب الهوية الشكلية والمساواة الشكلية.

وإذا حول البعض، المصنعون وشبكات التسويق والإعلام وبعض التيارات السياسية، يوم المرأة العالمي إلى يوم استهلاك مثله مثل ‘بلاك فرايدي’ أو ‘فلانتاين داي’، فإن هناك من يريد أن يحول هذا اليوم إلى اندماجي واحتفالي بقصص نجاح فردية من خلال الحديث عن تشريعات وتعديلات على القوانين في الكنيست مثلا، أو الاندماج بسوق العمل الإسرائيلية، وكلها قضايا تتعلق بالجانب الاجتماعي والاقتصادي، وتلتف على الأمر الجوهري، وهو أن قضية المرأة قضية سياسية ووطنية، وهي قضية قومية من الدرجة الأولى. ونزع سياق الصراع القومي عن نضال المرأة الفلسطينية في إسرائيل خصوصا، يحول نضالها وكأنه نضال لتحسين شروط السجن وليس نضالا سياسيا تحرريا. والأنظمة الاستعمارية أو الكولونيالية مستعدة بكل سرور إلى تحسين ‘شروط السجن’ إذا كانت تدعم الاستقرار، بحيث تصبح مطالب مثل زيادة فترة عطلة الولادة مطلبا مرحبا به لأنه يحافظ على الوضع القائم غير العادل، ويفيد بالأساس الأغلبية المهيمنة وتستفيد منه الأقلية المضطهدة صدفة. لكن هل مثلا هذه العطلة بذات الأهمية للمرأة التابعة للأغلبية المهيمنة مقارنة بالمرأة من الأقلية المضطهدة؟ شكليا نعم وجوهريا بالطبع لا.

التركيز على المطالب الاجتماعية والاقتصادية في النضال من أجل حقوق المرأة وتهميش المطالب السياسية ونزعها عن سياق النضال القومي، سيحولها إلى نضال من أجل تحسين شروط الاضطهاد، التي تستفيد منها أيضا الأغلبية المهيمنة، ويتجاهل دورها الأساسي بأن تكون في طليعة الحركة الوطنية والقومية، وفي ذلك تقزيم لهذا النضال. وبهذا المعنى، سيتحول مثلا النضال المشترك مع الحركة النسوية الإسرائيلية، التي تشمل أيضا نساء عنصريات ومستوطنات وعلى الرغم من الإدراك بأن هذه الحركة ليست لونا واحدا، سيحوله إلى نضال مبرر بل وأساسي في نضال الحركة النسوية الفلسطينية في الداخل، بدلا من أن يكون نقديا لهذه الحركة، ويرى في التنسيق معها في قضايا عينية أمرا استثنائيا وليس الأساس.

ومثلا، المطالبة العادلة بتعيين قاضيات في المحكمة الشرعية، قد تتحول إلى مطلب شكلي وإشكالي، لأن بمقدور الدولة أن تعيّن قاضيات على مقاسها ومعاديات للقضية النسوية وتكتفي بالهوية الشكلية لتلك القاضيات، بينما يجب أن يكون المطلب الأساسي هو تحرير المحاكم الشرعية من هيمنة الدولة والمخابرات. هذا مثال لاستحالة الفصل بين النسوي والسياسي والقومي في حالتنا.

وعندما نتحدث عن نضال نسوي قومي لا يعني ذلك فقط النضال ضد الاحتلال والعنصرية، بل أيضا النضال من أجل بناء مؤسسات نسوية قومية في الداخل لا تتوقف عند جمعيات نسوية بل تمتد لتشمل مثلا صندوقا قوميا لتمكين المرأة اقتصاديا وتحقيق ذاتها، أو مؤسسات تربوية ذات توجهات نسوية وصولا إلى المطالبة بضمان تمثيل ملائم للمرأة في الهيئات السياسية العربية مثل لجنة المتابعة وحتى القائمة المشتركة، وليس انتهاءً بضمان تمثيل النساء في السلطات المحلية. هذه ليست مطالب مدنية اجتماعية عادية، بل هي جزء من مشروع قومي ديمقراطي يهدف إلى تنظيم المجتمع العربي بمؤسسات قومية متنورة تتجاوز البنية السياسية الذكورية القائمة، وتحول المؤسسات القومية من مؤسسات ‘مخترة’ إلى مؤسسات تقدمية تنويرية. مؤسسات تمكن المرأة من تحقيق ذاتها وبالتالي تمكن المجتمع من تحقيق ذاته الجماعية، وهذا من شأنه من أن يمنع ‘خصخصة قضايا المرأة’ وتحويلها إلى تخصص أكاديمي أو تخصص ‘نضالي’، ويمنع حدوث الهوة القائمة راهنا بين النضال النسوي وبين شرائح المجتمع المختلفة لأسباب موضوعية. هذا من شأنه أن يرسخ أن الهم النسوي هو في صلب الهم الوطني والقومي.

ليس هذا وعظًا ولا خطابا موجها للحركة النسوية، بل مساهمة في نقاشات حركتنا الوطنية، التي نريد أن تكون الحركة النسوية في طليعتها، فمهمة خلع القدسية عن كثير من ممارستنا الاجتماعية والسياسية المتخلفة هي مسؤولية ومهمة الحركة الوطنية وليس النسوية فقط، التي نرى أنها جزء لا يتجزأ من التيار الديمقراطي في الوطن العربي الذي تجلى في انتفاضات 2011.  نريد لحركتنا الوطنية النسوية أن تقف على نفس أرضية المنظومة الأخلاقية التي تؤمن أن الحرية غير ممكنة دون مساواة وعدالة (وأخلاق ومن دون جماعة، وإلا تحولت إلى حرية ليبرالية فردية عدمية)، والمساواة والعدالة غير ممكنة إطلاقا في ظروف تمييز قومي واحتلال واستعمار

مقالات ذات صلة

إغلاق