
الأدب الجاهلي، رغم كونه أدباً لم يتأثر بتعاليم إسلامية، إلا أنه كان غنياً بالعناصر الأخلاقية التي تعكس طبيعة المجتمع العربي آنذاك. هذه القيم، وإن كانت نسبية وتتأثر بظروف البيئة القبلية، فقد شكلت الأساس الذي بنيت عليه كثير من الفضائل التي جاء بها الإسلام لاحقاً وهذبها وأكملها.
وكان الأدب الجاهلي، بشقيه الشعري والنثري، مرآة تعكس قيم المجتمع العربي قبل الإسلام، وإن كانت تلك القيم لم تتأسس على مرجعية دينية موحدة. احتوى هذا الأدب على عناصر أخلاقية راسخة، وإن خالطتها سمات تدل على طبيعة الحياة البدوية القاسية والنزاعات القبلية.
أولاً: في الشعر الجاهلي
الشعر هو ديوان العرب، وقد حفظ لنا قيمهم وعاداتهم. برزت فيه العديد من القيم الأخلاقية:
الشجاعة والإقدام (الفروسية): كانت الشجاعة في المعارك وحماية القبيلة من أسمى الفضائل.
مثال: قول عنترة بن شداد
وَلَقَد ذَكَرتُكِ وَالرِّماحُ نَواهِلٌ
مِنّي وَبِيضُ الهِندِ تَقطُرُ مِن دَمي
فَوَدَدتُ تَقبيلَ السُيوفِ لِأَنَّها
بَرَقَت كَبارِقِ ثَغرِكِ المُتَبَسِّمِ
(يُظهر شجاعته في المعركة وعدم خوفه من الموت).
الكرم والجود: كانت إكرام الضيف ومساعدة المحتاج من الصفات المحمودة جداً، ودليلاً على السيادة والمروءة.
مثال: قول حاتم الطائي (الذي اشتهر بكرمه)
سَأَلَوني الأَضيافُ هَل أَنتَ مالي
وَقَد أَقسَمَت أَن لا أُجيعَ حَيِيّا
وَمَن كانَت فِعالُهُ مِثلَ فعلي
فَلَيسَ بِمُعسِرٍ أبداً شَقِيّا
(يُبين حرصه على إطعام ضيوفه وسخائه).
الوفاء بالعهد والجوار: كان إنجاز الوعد وحماية الجار من مقومات الشرف.
مثال: قول السموأل بن عادياء (في لاميته المشهورة):
إِذا المَرءُ لَم يُدنَس مِنَ اللَؤمِ عِرضُهُ
فَكُلُّ رِداءٍ يَرتَديهِ جَميلُ
وَإِن هُوَ لَم يَحمِل عَلى النَفسِ ضَيمَها
فَلَيسَ إِلى حُسنِ الثَناءِ سَبيلُ
(يشير إلى أهمية صيانة العرض والوفاء).
الصبر والاحتمال: تحمل المشاق والصبر على النوائب، خاصة في الصحراء.
مثال: قول طرفة بن العبد في معلقته، واصفاً ناقته
(رمز للصبر على السفر):
وَأَعلَمُ عِلماً لَيسَ بِالظَنِّ أَنَّني
إِذا لَم أُغادِر سَيرَةَ البَغي لا أَندَمُ
كَأَنَّ حُدوجَ المالِكِيَّةِ غُدوَةً
خَلايا سَفينٍ بِالنَواحي تَيَمَّمُ
(وإن كان السياق عن الناقة، إلا أنه يعكس سمة الصبر والتحمل في حياة العربي).
ثانياً: في النثر الجاهلي
كان النثر أقل انتشاراً وتوثيقاً من الشعر في الجاهلية، لكنه حضر في صور مختلفة كـ”الخطابة” و”الأمثال” و”الوصايا”، والتي حملت بدورها قيماً أخلاقية:
الخطابة: كانت وسيلة لفض النزاعات، أو الحث على الحرب، أو إبرام الصلح، وتضمنت قيماً مثل الحكمة، والعدل، والدعوة إلى التآلف أو الشجاعة.
مثال: خطبة قس بن ساعدة الإيادي
(التي قيل إنه آمن بالوحدانية)، وتتضمن دعوة للتأمل والحكمة:”أيها الناس، اسمعوا وعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا. كل حي ميت، وكل جديد بال، وكل كبير يفنى، الليل داج، والنهار ساج، والسماء ذات أبراج، والنجوم تزهر، والبحار تزخر، والأرض مدحاة، والجبال أوتاد. إن في السماء لخبراً، وإن في الأرض لعبراً. ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون؟ أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا هناك فناموا؟” (تضمنت حثاً على التأمل في الحياة والموت، وهو نوع من الحكمة الأخلاقية).
”أيها الناس، اسمعوا وعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا. كل حي ميت، وكل جديد بال، وكل كبير يفنى، الليل داج، والنهار ساج، والسماء ذات أبراج، والنجوم تزهر، والبحار تزخر، والأرض مدحاة، والجبال أوتاد. إن في السماء لخبراً، وإن في الأرض لعبراً. ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون؟ أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا هناك فناموا؟”
(تضمنت حثاً على التأمل في الحياة والموت، وهو نوع من الحكمة الأخلاقية).
الأمثال: كانت خلاصة لتجارب وحكم الأجداد، وتضمنت الكثير من القيم الأخلاقية.
أمثلة:
”الصيف ضيعت اللبن”: يُضرب لمن فرط في فرصة سانحة ثم ندم. (قيمة التخطيط وعدم إضاعة الفرص).
”لكل جواد كبوة”: يُضرب للدلالة على أن الكمال لله وحده، وأن كل إنسان قد يخطئ. (قيمة التواضع وقبول النقص البشري).
”جزاء سنمار”: يُضرب لمن يُقابل الإحسان بالإساءة. (قيمة الوفاء ورد الجميل).
الوصايا: كانت وصايا الآباء للأبناء، أو القادة لأتباعهم، وتضمنت توجيهات أخلاقية مباشرة للحياة والسلوك.
مثال: وصية ذي الإصبع العدواني لابنه أسيد:”يا بني، إن أباك قد فني وهو حي، وعاش حتى سئم العيش، وإني موصيك بما إن حفظته بلغت في قومك ما بلغه أبوك: ألن جانبك لقومك يحبوك، وتواضع لهم يرفعوك، وابسط لهم وجهك يطيعوك، ولا تستأثر عليهم بشيء يسودوك، وأكرم صغارهم كما تكرم كبارهم يكرمك كبارهم ويشب على مودتك صغارهم…” (تحتوي على وصايا مباشرة في حسن المعاملة، والتواضع، واحترام الآخرين، مما يعكس قيماً اجتماعية وأخلاقية).
”يا بني، إن أباك قد فني وهو حي، وعاش حتى سئم العيش، وإني موصيك بما إن حفظته بلغت في قومك ما بلغه أبوك: ألن جانبك لقومك يحبوك، وتواضع لهم يرفعوك، وابسط لهم وجهك يطيعوك، ولا تستأثر عليهم بشيء يسودوك، وأكرم صغارهم كما تكرم كبارهم يكرمك كبارهم ويشب على مودتك صغارهم…”
(تحتوي على وصايا مباشرة في حسن المعاملة، والتواضع، واحترام الآخرين، مما يعكس قيماً اجتماعية وأخلاقية).