نشاطات

مولع بنجيب محفوظ د. أحمد ابراهيم الفقيه

في هوى روايات نجيب محفوظ، فصارت هذه الروايات ادمانا ، لم يكن يطيق قراءة اي كاتب اخر ، ولا اية روايات اخرى سواء كتبها روائيون عرب او مترجمة من تراث السرد العالمي، ويقول صراحة بانه ليس هناك بالنسبة له كاتبا ، يمنحه المتعة التي يجدها في قصص وروايات نجيب تحفوظ، واذا فرغ من كتاب عاد الى كتاب اخر يكون قد قرأه منذ اعوام خلت ، فكل قراءة جديدة هي بالنسبة له تجربة جديدة ، بل احيانا يعاود قراءة الرواية الواحدة في فترة واحدة عدة مرات، يعني انه ما ان ينتهي من قراءة اخر صفحة ، حتى يعود الى الصفحة الاولى، قائلا انه يجد ذات المتعة بمثل ما يحدث معنا عندما نعجب باغنية فنعيد ادارة الشريط او الاسطوانة لنستمع الى الاغنية عدة مرات ، او نعجب بفيلم فنعاود مشاهدة الشريط مرة ثانية، هكذا هو الامر بالنسبة له، وهناك عدد من روايات محفوظ يقول انه يحب ان يعيش في اجوائها ولا يخرج منها ابدا ، ويذكر ارقاما لمرات القراءة يصعب احيانا تصديقه ، فهو يقول انها تصل احيانا الى مائة مرة، خاصة مع اكبر روايات نجيب محفوظ حجما ، مثل الثلاثية ، ثم الحرافيش ، ويقول انه يضع هاتين الروايتين على قمة الهرم المحفوظي ، كما يحب من الروايات القصيرة ميرامار ، ويراها تحفة ، ويستطيع ان يقرا لك من الذاكرة الصفحات الاولى منها باعتبارها شعرا يسهل حفظه ، وهي التي تبدأ بالاسطر التالية :

((الإسكندرية أخيراً. الإسكندرية قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع. العمارة الضخمة الشاهقة تطالعك كوجه قديم، يستقر في ذاكرتك فأنت تعرفه ولكنه ينظر إلى لا شيء في لا مبالاة فلا يعرفك، كلحت الجدران المقشرة من طول ما استكنت بها الرطوبة. وأطلت بجماع بنيانها على اللسان المغروس في البحر الأبيض، يجلل جنباته النخيل وأشجار البلخ ثم يمتد من طرف قصي حيث تفرقع في المواسم بنادق الصيد. والهواء المنعش القوي يكاد يقوض قامتي النحيلة المقوسة، ولا مقاومة جدية كالأيام الخالية)) .

وكان هذا المولع الى حد الهوس بنجيب محفوظ ، واسمه عمر ، زميلا لي في الجامعة ، دخلنا سويا كلية الفنون قسم الاعلام ، مع بداية تحوله عن قراءة كل شيء اخر، وانهماكه في نجيب محفوظ ، فكان يجب ان اتلقى اولى موجات الحماس الذي اصبح حالة اشبه بحالات التلبس ، عندما يساكن الانسان عفريتا ، وعفريته هو نجيب محفوظ ، وزاد غلوا في التوحد مع هذا القرين او العفريت عبر توالي الاعوام ، فقد تزاملنا في صحيفة الفجر الجديد معا، فربطت بيننا زمالة الدراسة ثم زمالة العمل ، وتحولت الزمالتان الى صداقة وعشرة ولقاء مستمر خارج ساعات العمل ، فكنت الشاهد الاول على انعكاس هذه الحالة على سلوكه وممارسته للحياة قولا وعملا، واصبح لا يرى العالم الا من خلال شخصيات نجيب محفوظ ورواياته ، بدءا برئيس النظام العسكري الذي يمسك البلاد ، فابذل اسمه من القذافي الى الجبلاوى ، متخذا اسم الاب المستبد في اولاد حارتنا ، واذا راى رجلا عهد اليه الطاغية بعمل مهم ، اسماه ادهم ، وهو لا يسمي من يرى في سلوكه شرا ، بغير اسم ادريس، وهو الاسم الذي اعطاه نجيب محفوظ لابليس ، اما اسم سي السيد ، او احمد عبد الجواد فقد جعله اسما مفضلا لابيه ، كما اعطى امه اسم امينة، المرأة الغلبانة التي تعيش تحت سيطرة الاب القاسي، وقام بتوزيع اسماء ابناء احمد عبد الجواد على اخوته فاسمى احدهم ياسين والثاني فهمي والثالث كمال ، واختيه خديجة وعائشة ، اما المرأة التي كان يختلي بها احيانا في حي من احياء المدينة القديمة داخل بيت مشبوه فاسماها باسم فتاة مومس في اللص والكلاب هي نور ، اما ما كان حقا يتفنن في اختيار اسماء لهم فهم الزملاء والزميلات في الفجر الجديد والمؤسسة العامة للصحافة التي تتبعها وتصدر صحفا ومجلات ، اثنان منها بطواقم نسائية مثل مجلة المرأة ومجلة الطفل ، فاغدق على الجميع من اسماء شخصيات نجيب محفوظ ، ما يحسده المؤلف نفسه على اختياره لهذاه الشخصيات ، فلدينا مترجم في الصحيفة اسماه من فوره وقبل ان يرى اذا كانت طباعه تتفق مع الشخصية او لا تتفق ، اعطاه اسم مترجم في المرايا اسمه عبد الرحمن شعبان ، مع انه لم يكن يملك ما يملك رجل الرواية من بناء ضخم وذوق رفيع في الملابس والسكن والطعام باعتباره ينحدر من عائلة تنتمي للطبقة الراقية ، فقد كان المترجم نحيفا ممصوصا مثل عود القصب ، ولا يشترك مع مترجم المرايا الا في العصبية والهبات الغاضية التي لا تحتاج الى سبب ، اما رئيس التحرير الذي قفز الى هذا المنصب مباشرة بعد رئيسها الاول الذي تعب في تأسيسها ووجدها هو جاهزة ، فقد اسماه على الفور سرحان البحيري ، بما لسرحان البحيري في رواية ماريمار من علاقة بالاتحاد الاشتراكي وما في طبعه من تلون وانتهازية ، ولانه لابد ان يجد معادلا لبعض نساء نجيب محفوظ وفيهن الكثير من ذوات السلوك المنحرف ، فقد اعطى اسم نفيسه البنت الفقيرة التي انحرفت نتيجة الفقرفي رواية بداية ونهاية، لفتاة تعمل موظفة على هاتف البدالة، لانه كان شاهدا على احد المحررين يحاول تقبيلها وهي تتغنج وتضحك ، وراى في سلوكها انحرافا ليس اصيلا ، بقدر ما هو انحراف الحاجة والخضوع لارادة من هو اكثر مالا واكبر منصبا ، وكان التنافس شديدا بين المحررين على المهمات الصحفيين، واختار اكثرنا حظوة بمهمات الذهاب الى الخارج، فاسماه محجوب عبد الدائم، بطل القاهرة الجديدة،

وعندما ابديت احتجاجي على هذه التسمية لزميل من اصحاب الكفاءة ، قال وهل تظنهم في هذه المؤسسة يقدرون الناس بكفاءتهم ، انها رحلات مدبرة من اناس في الدوائرة العليا، ليحلو لهم المرح والفرح مع زوجة زميلنا المسماة سعاد، اليست لك اذان تسمع بها ما يدور من تلسين عليه وعليها ، وقريبا سوف تراه يحتل مكانه رئيس تحرير لاحدى مطبوعات المؤسسة وهو ما حدث بعد ان ذهب رئيس تحرير تلك المطبوعة الشهرية في مهمة ديبلوماسية، واحيانا كنا نجد عملا اضافيا في وكالة تتعامل مع المراسلين الاجانب ، وتريد مراسلين لصحف في الخارج ، وجاء لاكون شريكا له في اعمال المراسلة لهذه الصحف عن طريق وكالة يملكها شخص من اثرياء الليبيين ، وجاء يقدم العرض قائلا ” انه خير وبركة ياتي عن طريق واحد من غير اهله ” وسالته بلهفة من هذا الذي يقدم لنا الخير والبركة ، رغم انه ليس من اهل الخير والبركة ” فقال بسرعة ودون تفكير ” زعتر النوري ” ولم اكن قد عرفت احدا بهذا الاسم فطلبت منه شرحا ، فتساءل في ضيق صدر ” الم تقرا يا اخي رواية اهل القمة ، اليس زعتر النوري هو اللص صاحب السوابق الذي تحول مليونيرا من اهل الانفتاح ” وكان النظام في ليبيا قد بدا انفتاحه المحدود على عالم التجارة والوكالات، وكان صاحب هذه الوكالة من اهل الثراء الذي جاء عن طريق الصفقات الحكومية، وهي صفقات لا تعطى الا للشركاء في الفساد الحكومي، وبمجرد سماعي لما قاله ابديت نفورا من العمل ووجدته يتبعني في النفور ، دون ان يقطع علاقته بمن اسماه زعتر النوري ، واحتفظ بعلاقة محدودة تتصل بوساطته عندما يريد ان ينشر اعلانا، خاصة عندما يريد شراء صفحة في عيد الانقلاب ، وتهنئة الجبلاوى بهذا العيد، فكان هو يتطوع بصياغة الاعلان، وجلبه للشركة الحكومية الموكلة بالتعامل مع الاعلانات، واعطاء نسبة ضئيلة لمن تستخدمهم في جلب هذه الاعلانات ، وقلت له عندما عرفت بهذه العلاقة التي ابقى عليها سرا ، هل اسميك اذن رؤوف علوان ، وهو الصحفي الذي يبشر بعكس ما يفعل في اللص والكلاب ، فحذرني قائلا “انك تعرف مهارتي في صنع هذه الاسماءن ويمكن ان اجد لك اسما يزعجك ، ان لم تسحب هذا الاسم” فقلت له اعتبره مسحوبا، وكان لنا زميل اكبر سنا ، وتوغل في العزوبية ، فلم يتزوج وتاسف عندما رايت زميلنا عمر يضعه في دور العنين في رواية السراب ويعطيه اسم كامل رؤبة ، وكان الزميل اسمه في الاصل كمال، فكان الربط يلاقي هوى في نفسه، وربما بعض الحاقدين على الزميل ممن تلقفوا الاسم واستخدموه اسما ثانيا له ، واحتفظ باسم صبرية الحشمة لزميلة تحرر باب المرأة، ولها صلة بخيمة الجبلاوى وظهرت اشاعات تربطها بمهمة القوادة لصاحب الخيمة، فاطلق عليها اسم هذه الذاعرة والقوادة الشهيرة التي ربت الاموال من وراء مساعيها في التوفيق بين زبائن الحرام من رجال ونساء، في رواية المرايا ، ورغم انها امرأة شبه امية ، ولا احد يعرف عنها انها يمكن ان تقرأ نجيب محفوظ الا انها ، جاءت ودخلت المكتب الذي اجلس فيه انا وزميلي عمر، ودون اذن ولا سلام ، اخذت حقيبة جلدية سوداء في يدها ولطمت بها وجه عمر، الى حد صار ينزف الدم من جانب وجهه ، وقالت له ان هذا ليس الا عينة من عذاب اكبر سوف يلقاه، عندما ياتي من ياخذه للتحقيق، لما يتقول به عليها وعلى القائد من اكاذيب وترخصات ، ووقفت احول بينها وبينه ، وامنعه هو ايضا من التهور معها لخطورة الامر على حياته ، وقالت له وهي تقف قريبا من الباب تهم بالذهاب ، ان التسجيلات التي يكيل فيها الاتهامات الرخيصة لها وعلاقتها بالقيادة قد وصلت الجهات الامنية، وفي ذات اليوم جاء زوار الفجر يداهمون بيته اثناء الليل، وساقوه الى التحقيق، واسمعوه تسجيلا يسمي فيه المحررة باسم صبرية الحشمة ويتهمها بالقوادة لسيدها الجبلاوي ، فاعترف انه لم يقل الا الحقيقة ، وقال لهم اسم تاجر مشهور يعيش في الخارج اسمه القبلاوي ، مؤكدا ان المحررة تبعث له بنساء من ليبيا يردن التبضع والفسحة، فيستقبلهن في روما ويقضي معهن وقتا طيبا ، ابقوه في السجن لمدة شهر كامل وحاولوا انتزاع حقيقة الرجل الذي يقصده باسم الجبلاوي، فلم يبح لهم بحقيقة الرجل الذي يعنيه، واصر على موقفه ليقينه بوجود تجار كثر بعضهم من المعارضين للنظام بالخارج ، يحملون هذا الاسم لانه نسبة الى قبائل الامازيغ في الجبل الغربي، مما ارغمهم على ان يبحثوا عن حقيقة وجود تاجر بهذا الاسم يعيش بين روما ولندن وعرفوا ان هناك من يقوم باستقبالهن من النساء ، فوجدوا بسبب اصراره وصبره انه ربما يكون على حق ، ولم يكن هناك بالتاكيد من له علاقة بالادب ويعرف شيئا عن شخصية الجبلاوى وجبروته في رواية اولاد حارتنا ليربط بين الاسمين ، فلم يكن امامهم الا ان اطلقوا سراحه ، بعد انذاره بان عقابه سيكون اكثر شدة، لو عاد للتلسين على النساء الشريفات، وجاء بعد شهر الحجز شاحب الوجه ، وقد فقد نصف وزنه ، وكان خبر اعتقاله قد شاع في الصحيفة والمؤسسة وحاول سرحان البحيري التدخل لصالحه، ولكنه وجد ان التهمة سياسية مما يجعل من المحظور الاقتراب منه، او السؤال عنه ، الى ان يقضى الله امرا كان مفعولا ، وسالته كيف استطعت ان تنفذ من هؤلاء الجلاوزة ، فغمز لي بعينه قائلا ” بفضل بركات سيدنا الجبلاوى ” ومعنى ذلك انه لو لم يكن قد اختار اسما للطاغية استوحاه من نجيب محفوظ، وظهر في التسجيل على هذا الوجه بدلا من اسمه الحقيقي، الذي كان سيقوله صراحة، لكان الان قد ودع الحياة تعذيبا او رميا بالرصاص، كما حدث مع الاف ممن كانت تهمتهم فقط التعرض بسوء لاسم القائد . نعم لقد انقذه الجبلاوى ولكنه كان على وشك ان يلاقي مصيرا مرعبا بسبب هذه الاسماء التي يقتبسها من نجيب محفوظ ويعطيها لاناس موجودين في المحيط الذي يعيش فيه . انه فعلا لم يتوقف عن قراءة نجيب محفوظ وحفظ بعض الاسطر مما يقرأه ، واستخدام القراءات كمراجع في السلوك، كان يقول لا تكن واهما مثل صابر الرحيمي تجري وراء السراب مثله ، او لاتكن مغفلا مثل عيسى الدباغ في السمان والخريف عندما رفض الاعتراف بالواقع وعاش على حافة الجنون، او لاتفعل ما فعله حلمي حمادي او اسماعيل الشيخ وترمي بنفسك الى لتهلكة كما فعلا في الكرنك ، وهكذا لكنه توقف تماما عن تركيب الاسماء الخيالية المقتبسة من عالم نجيب محفوظ ، منذ ان سال دمه على يد السيدة صاحبة الحقيبة التي اخذ منها الدرس، مرددا ما كان يقوله نموج من نماذج نجيب محفوظ وهو ان ” الحكمة هي اثمن ما نفوز به من دنيانا ذات الايام المعدودات ” وادرك انه لا فائدة من مثل هذه الاساليب رغم اعترافه باهميتها لان “الصراع الحقيقي في هذه الحياة ” كما تقول شخصية اخرى من شخصيات نجيب محفوظ ” هو ما يقوم بين الحقائق والاساطير” ويضيف قائلا انه لا يريد ان يرى نفسه ضحية هذا الصراع ، وهجر فتاة المدينة القديمة التي كان يسميها نور الى حب بنت من بنات الجيران لها اهتمام بالسياسة الى حد ان اغراه حبها للسياسة بالعودة الى لعبة الاسماء المحفوظية ولكن في نطاق امن محدود جدا واعطاها اسم فتاة مناضلة في الكرنك اسمها زينب دياب احبها ، وجعل من حبها تعويضا وبديلا يلهيه عن التلسين واطلاق الاشاعات التي يلحقها بالاسماء عن اهل المؤسسة واهل الصحيفة قائلا عن هذا الحب جملة اقتبسها من احدى قصص محفوظ هي “ان الحب لا يتخير مناسبة ، فهو صالح لكل مناسبة “.

وحدث ان تركت الصحافة المحلية الى العمل في الاعلام الخارجي ، فتفرقت السبل بيني وبين صديقي عمر ، الا انني لم انسه وانا انضم الى احدى حلقات نجيب محفوظ في القاهرة وقلت للكاتب الكبير انني اعرف رجلا مجنونا بابداعه وحكيت له معاناته في السجن بسبب هذا الهوس فقال ضاحكا ضحكته العالية التي اشتهر بها : حمدا لله ان صاحبك يعيش في مدينة تبعد الاف الاميال عن القاهرة ، هي طرابلس ، والا كان خرج من سجنه غاضبا يبحث عني لانه التاكيد اعتبرني مسئولا عما حدث له وجاء للانتقام كما فعل سعيد مهران مع استاذه رؤوف علوان باعتباره الرجل الذي غرر به واوصله الاعجاب بافكاره الى السجن .

مقالات ذات صلة

إغلاق