نشاطات

لماذا تفشل الوحدة الإسلامية .. “مؤتمري الشيشان والكويت نموذجا” …؟!! عبدالعزيز القناعي

الوحدة الإسلامية والتضامن الإسلامي والأمة الإسلامية .. شعارات ارتفعت وتكررت عبر التاريخ الإسلامي، وقد حاولت تطبيقها عدة دول منذ عصر النبي محمد ومرورا الي عصور الامويين والعباسيين وغيرهم من الدول والممالك والطوائف ووصولا الي عصرنا الحالي الذي شهد أيضا قيام منظمة التعاون الإسلامي ورابطة العالم الاسلامي وغيرها من المؤسسات الداعمة للوحدة والتي يغلب عليها الطابع السياسي والتبعية الاقتصادية لأقطاب الإسلام السني والشيعي.
لكن الطابع الغالب على هذه الشعارات، رغم مقاصده النبيلة، يشهد على فشلها تاريخيا وعدم قدرتها على تحقيق التضامن الحقيقي بين الشعوب الا بفترات بسيطة غالبها القوة، وخصوصا ان الإطار العام للوحدة هو الدين الاسلامي، فغاية أي شعار قومي او ديني او حتى سياسي، ان ينتج بالنهاية تضامنا اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا يدل على نجاح الشعار وتحقيقه لأهدافه الكبرى. ولعلنا إذا أردنا ان نستحضر أفضل التجارب وانجحها طوال فترة كبيرة حتى اليوم، علينا ان ندرس التجربة الأوروبية وحضورها السياسي والاقتصادي الذي تمكن من التحول إلى حركة تكاملية اندماجية فرضت نفسها على أرض الواقع رغم تعدديتها القومية والعرقية واللغوية. حيث يذكر الباحث إبراهيم غرابية في كتابه “الاتحاد الأوروبي والدروس المستفادة عربيا” والصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية “لقد بدأت الوحدة الأوروبية مشروعا فكريا في أذهان مفكرين وحكماء وفلاسفة وفقهاء ورجال قانون ومصلحين اجتماعيين قبل أن تتحول إلى مشروع سياسي تدعمه المؤسسات السياسية والاقتصادية، ويتبلور تدريجيا عبر سلسلة من الرؤى والتطبيقات والصراعات”. ويقول ايضا الكاتب، وربما كإجابة عن تساؤلات العديد من الكتاب والمثقفين العرب عن سبب نجاح التجربة الاوروبية وعدم سقوطها وفشلها بعد فترة قصيرة ، كما يحدث لدينا في مجتمعاتنا العربية والاسلامية، فيعزو السبب الي “تمكنت تجربة التكامل الأوروبي من تطبيق النهج الوظيفي بنجاح، لسبب بسيط هو أنها تمكنت من حل ثلاث معضلات أساسية: أولاها تحييد الخلافات السياسية وعزل تأثيراتها السلبية المحتملة في العملية التكاملية، وثانيتها بناء مؤسسات فعالة قادرة على إدارة العملية التكاملية، وآخرها ضمان تقدم العملية التكاملية إلى الأمام واستمرارها والحيلولة دون التفافها حول نفسها”.
إذن ندرك هنا انه ومن دون توفر هذه الشروط الثلاثة يستحيل على أي تجربة تكاملية أن تنجح مهما حسنت النيات أو توفرت الإرادة والتصميم او رفعت من شعارات مقدسة وسياسية. ولأن هذه الشروط غير متوافرة في الواقع الإسلامي بأوضاعه الحالية، فإن العمل على توفير متطلباتها يعد أحد أهم الدروس المستفادة من الخبرة الأوروبية او غيرها من التجارب الناجحة والتي لا يسع المجال هنا لاستعراضها كاملة.
فلماذا إذن أخفقت تجاربنا الإسلامية عن تحقيق مثل نموذج الوحدة الأوروبية او حتى استكمال الوحدة الاسلامية. رغم تفوقنا المادي والبشري، وأجزم أيضا مقدرتنا الفكرية على ان نحقق الكثير من التجارب الناجحة. إلا أننا مازلنا نراوح في مكاننا داخل دوائر الصراعات والحروب والنزاعات المذهبية والفقهية.
لعل المثال الأوضح اليوم في كشف ازمة الوحدة الاسلامية هو مؤتمر غروزني الذي عقد في الشيشان إحدى جمهوريات روسيا الاتحادية في اواخر شهر أغسطس الماضي، تحت عنوان اهل «السنة والجماعة»، برعاية الرئيس الشيشاني رمضان قاديروف وحضور عربي واسلامي، من بينهم رئيس الازهر الشيخ الدكتور احمد الطيب. وأزمة المؤتمر لم تكن هذه المرة بسبب الجدال المعتاد لمثل هذه المؤتمرات حول التقريب بين الأديان والمذهب، بل بسبب ان المؤتمر حدد اهدافه الرئيسية في «تصويب الانحراف الحاد والخطير الذي طال مفهوم اهل السنة والجماعة إثر محاولات اختطاف المتطرفين لهذا اللقب وقصره على أنفسهم واخراج اهله منه”. وقد أثار عنوان المؤتمر موجة غضب عارمة في العالم الإسلامي، حين استثنى القائمون على المؤتمر دعوة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وهيئة كبار العلماء في السعودية ومنظمة التعاون الإسلامي وغيرها من المؤسسات الدينية، خصوصاً أنه زعم تحديد هوية أهل السنة والجماعة. وغضبوا أكثر حين خلص المؤتمر في تعريفه لأهل السنة والجماعة بأنهم “الأشاعرة والماتريدية في الاعتقاد، «ومنهم أهل الحديث المفوضة» في الاعتقاد، وأهل المذاهب الأربعة الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في الفقه، وأهل التصوف الصافي علما وأخلاقا وتزكية على طريقة سيد الطائفة الإمام الجنيد ومن سار على نهجه من أئمة الهدى.
ولم تقف تداعيات المؤتمر عند هذا الحد، فقد أصدرت هيئة كبار العلماء بالمملكة السعودية بيانا حذرت فيه من الدعوات التي تهدف إلى إثارة النعرات وإذكاء العصبية بين الفرق الإسلامية، مؤكدة أن كل ما أوجب فتنة أو أورث فرقة فليس من الدين في شيء. كما أعرب الشيخ القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين عن انزعاجه من أهداف وعنوان المؤتمر، واصفاً إياه بأنه “مؤتمر ضرار”، مستغرباً من نفي البيان الختامي “صفة أهل السنة عن أهل الحديث والسلفيين”.
وأيضا لم يكتفي المعارضون للمؤتمر بهذا بل اتبعوه بعقد مؤتمر الكويت في نوفمبر الماضي الذي حضره عشرات من رجال الدين من حول العالم، وقد حمل ردا ضمنيا على مؤتمر غروزني وما جاء فيه من تعريف لـ “أهل السنة والجماعة” والذي أثار جدلا واسعا لعدم إشارته إلى السلفية. وحمل مؤتمر الكويت عنوان “المفهوم الصحيح لأهل السنة والجماعة وأثره في الوقاية من الغلو والتطرف” وترأسه مفتي موريتانيا، الشيخ أحمد بن المرابط، وشهد مشاركة العديد من الوجوه المعروفة بالتيار السلفي، وجاء في بيانه الختامي الذي تلاه الشيخ عبد العزيز السعيد من “جامعة الإمام محمد بن سعود” أن الهدف من التجمع هو “الذب عن منهج أهل السنة والجماعة وتبرئته من تحريف الغالين وانتحال المبطلين.”
وفي تطور ملفت، زار السعودية منذ فترة الرئيس الشيشاني ليؤكد أن المؤتمر الذي أثار الجدل كان موجهًا ضد من يدعون كذبًا أنهم «سلفيون»، ويستغلون شعارات أهل السُّنة. وقال لجريدة الشرق الأوسط “لسنا ضد السلفيين الحقيقيين الذين يقفون بثبات على درب السلف الصالح”.
الآن وبعد أن انجلى غبار مؤتمري الشيشان والكويت عن اخفاق المسلمين أنفسهم في التوحد، وعن بروز اختلافات رئيسية حتى في تعريف وتصنيف الجماعات الإسلامية المنتمية للمذهب السني ناهيك عن المذهب الشيعي وتعدداته المختلفة. أليس من حقنا أن نتدارك هذه العوائق أو نفهم أسباب فشل الوحدة الإسلامية، ولماذا الي اليوم مازالت الأنظمة الأوروبية والغربية أكثر فهما لمعنى الوحدة وكيف تتوحد ومتى تنفصل؟؟
تكمن الازمة الأولى والعائق الأكبر، في اننا كشعوب وحكام لا نتعلم من التاريخ ولا نفهم صيرورة التغير والتطور، لأننا بنيويا تعلمنا الثبات او تعلمنا ان ننطلق من النتائج ومن الثوابت ولا نخترقهما باعتبارهما من المقدسات. ولا تعود أسباب تشتت المذاهب التي تجتاح دول القطب السني إلى غياب السلطة الدينية الناظمة، وإنما العكس، بسبب تلك الرّغبة الجامحة في تنميط تجربة دينية تظل في أصلها وأساسها غير قابلة لأي تنميط. أي برغبة كل مذهب سني او جماعة سنية بأن تكون هي الرأس والممثل الوحيد لله والبقية مجرد ذيول واتباع إن لم يكن كفار وعصاة. فكل مظاهر الإسلام الإخواني والإسلام السلفي والإسلام الجهادي إلخ، ما هي إلاّ تجليات لسباق الفرقة الناجية نحو تنميط الحقل الديني لغاية التحكم فيه. لكنه سباق إلى الماضي او كما قال إريك فروم في أحد كتبه “الهروب من الحرية”.
كما علينا من جهة أخرى مجابهة المقدس الديني والتراث الإسلامي بأدوات التحليل النقدي التاريخي الذي يجتهد في الكشف عن الزمني والتاريخي والسوسيو- ثقافي في كل ما خلعت عليه المذاهب الإسلامية عمامة التعالي واللاتاريخية. حيث اضحى قول الفقيه مقدس وفتوى الشيخ ملزمة واقوال السلف صالحة لكل زمان ومكان مما جعل من بقية الآراء مجرد اقوال مضللة وكل بدعة في النار مهما بلغت من الرشد والعقلانية في توحيد الصفوف.
فكيف نتوقع ان يثمر أي مؤتمر إسلامي عن وحدة وتضامن واتفاقية، بينما غالبية من يحضر تلك المؤتمرات يحضر بعقلية اقصائية مسبقة، بل ولا يعترف بالآخر المختلف، ولا يقبل به طرفاً في إطار الدين الإسلامي، بل يعتبر كل طرف منهما أن الآخر المختلف مجرد “واقع أدنى”، وليس مذهب إسلامي متفق عليه. فما نلاحظه عند انعقاد أي مؤتمر إسلامي هو هدف كل فرقة ومذهب الي إلحاق الهزيمة بالخصم، وتوظيف المؤتمر للمباراة الخطابية، فهم منغلقون ضد بعضهم البعض. وهذا ما جعل من تحقيق التقارب أكثر صعوبة. حيث كل مذهب يتبارى بضراوة ليثبت صحة مذهبه، وأن الآخر على ضلال مبين. وغني عن القول، بأن هكذا مؤتمرات محكومة عليها بالفشل مسبقاً وغالباً ما تنتهي والمذاهب أشد فرقة وأكثر غيظاً وحقداً على بعضهم البعض وذات الشيء يمكن قوله في حالة عقد مؤتمرات التقارب بين الأديان الثلاثة، الإسلام والمسيحية واليهودية، او بين المذاهب الاسلامية نفسها.
كما ان المشكلة الأكبر في مثل هذه المؤتمرات ان رجال الدين والفقهاء لم يكلفوا أنفسهم للبحث عن سبب فشل مؤتمراتهم السابقة لكي يستفيدوا من تجاربهم وأخطائهم. فالهدف من الوحدة الاسلامية لا يجب ان يكون البحث عن الحق والباطل، فكل مذهب بالضرورة يعتقد أن الحق إلى جانبه. فالاختلاف بين الأديان والمذاهب مسألة طبيعية وحتمية ويجب قبولها والتعايش معها. فالدين أو أي مذهب مثل الشجرة، كلما مر عليها الزمن برزت لها فروع جديدة. وهذه الظاهرة ليست خاصة بالأديان وحدها، بل نجدها حتى في الفلسفات والمذاهب الفكرية والأيديولوجيات الأخرى مثل الاشتراكية والليبرالية وغيرها. فعقلية الخوف من الاختلافات والخلافات المذهبية يجب ان تنتهي ليحل مكانها قبول الآخر والتعايش معه إلا في حالة التطرف وحمل السلاح، فحينها يعتبر هذا الطرف معتديا يجب مواجهته ونزع السلاح منه وإلا لتحولت المذاهب الاسلامية الي مافيات وعسكريات تطمح الي السلطة والحكم بطرق غير مشروعة ولا ديمقراطية كما يحدث لبعض التيارات الاسلامية اليوم.
كما على أصحاب المذاهب الإسلامية النأي بالدين عن السياسة والابتعاد عن الصفقات والمحاصصات الدينية والمذهبية مع الأنظمة والحكام والتي لم تؤدى تاريخيا إلا الي المزيد من الفرقة والتشرذم والحروب، فالتاريخ الإسلامي أكبر دليل وشاهد على ما فعله تسييس الدين من خلافات دموية، بدءا من وفاة النبي محمد الي عصرنا الحالي في السعودية وإيران وغيرها من دول الخلافة الإسلامية المنتشرة في بعض المناطق العربية والإسلامية كالقاعدة وداعش.
إن الإسلام اليوم يعاني من اختلالات فكرية وبنيوية وتاريخية، والمذاهب الإسلامية ساهمت في إطالة أمد الخلل والأزمة والتراجع الحضاري. فالوحدة الاوروبية وإن كانت اليوم على شفا التزعزع اقتصاديا وخروج بعض الدول، إلا انها تجربة قدمت الدليل على ان الانسان باستطاعته ان يكون عنصرا للتوحد والتعاضد إذا ما آمن بأن التعايش هو السمة المستقبلية، وان الخلافات لا يمكن لها أن تسيطر إذا كانت الثقافة المجتمعية ثقافة انسانية علمانية، وأن الآخر المختلف لا يشكل تهديدا للدين بقدر ما هو عامل للثراء والتنوع والسلام.

مقالات ذات صلة

إغلاق