المبدع المتميز الصاعد

مَلَك حفني ناصف … آراؤها وجهودها لترقية المرأة المصريّة

على صفحات جريدة «الجريدة»، كانت ملك حفني ناصف (1886 – 1918م) تلتقي قرّاءها عبر مقالاتها «النسائيات»، التي تناولت فيها قضايا المرأة المصرية وسبل الارتقاء بها. وقد جمعت ملك هذه المقالات التي بلغ عددها 24 مقالاً مع خطبتين وقصيدة واحدة في كتاب حمل العنوان نفسه، مع مقدمة لأحمد لطفي السيد، مدير «الجريدة».

وبعد وفاة ملك بعامين، صدرت طبعة ثانية من «النسائيات» تضمنت ترجمة لحياتها بقلم شقيقها مجد الدين، وألحق بهذه الطبعة جزء ثان يضم مراسلات ملك ومي زيادة التي جرت على صفحات «الجريدة» و «المحروسة»، وقطعة نثرية لها في وصف البحر. وفي الستينات، أصدرت وزارة الثقافة كتاباً جمع ما أمكن جمعه من آثار ملك النثرية والشعرية بعنوان «آثار باحثة البادية»، وهو اللقب الذي اتخذته بعد زواجها وانتقالها الى العيش في بادية الفيوم، وتضمن هذا الكتاب المزيد من مقالاتها وخطبها ومحاضراتها، ومنها ما ألقته في الجامعة المصرية، وكذلك أشعارها التي نظمتها في مناسبات مختلفة، منها أبيات كتبتها وهي في الثالثة عشرة من عمرها بعد حصولها على الشهادة الابتدائية، وكانت الأولى بين دفعة تلميذات يحصلن عليها، وبعدها نالت دبلوم المعلمات. كما تضمن الكتاب قصيدة نددت فيها بإحياء قانون المطبوعات عام 1909م، وأكثر من قصيدة رثاء، منها رثاء الشيخ محمد عبده وعائشة التيمورية.

كان من الطبيعي أن تنشغل ملك، من واقع دراستها وعملها كمعلمة، بقضايا التعليم والتربية، فقدمت مقترحاتها لتطوير مدارس البنات، وانتقدت طرق التعليم المتبعة في المدارس، لأنها تركز على «استظهار المحفوظات بغير فهم لمعانيها أو تروٍّ في دقائقها» فتنمي ملكة واحدة و «تخفي سائر الملكات أو تقتلها قتلاً». وفصّلت الحديث في المواد المختلفة التي يتلقاها التلاميذ وكيف يمكن تطوير مقرراتها وطرق تدريسها، ابتداء من الهجاء والقراءة الأولية مروراً بالدين والخط والحساب واللغة والتاريخ، وحتى الأشغال اليدوية، والموسيقى التي تؤكد أهمية تدريسها للبنات في المدارس، مع تفضيلها الآلات الشرقية كالعود والقانون على الغربية كالبيانو. وطالبت بجعل التعليم الأولي إجبارياً ومجانياً، وبحسن اختيار المعلمين وإعطائهم أجوراً مرضية، وتفضيل المعلمات الوطنيات على الأجنبيات.

كما اهتمت ملك بقضايا الزواج والأسرة، فانتقدت الزواج المبكر والقسري والزواج لأجل المال، وعدّت الزواج (العمياني) السبب الأهم وراء شقاء غالبية الأسر المصرية، فعادة الشرقيين الاتكال في كل أمورهم على القضاء والقدر والحظوظ، على رغم أن مسألة الزواج «مسألة اختيار محض، للعقل أن يحكم فيها وحده، فإذا أحسن الاختيار حسنت عاقبته وإذا قصر أو أهمل ساءت العقبى». ومن ثم، دعت إلى اتباع الطريقة الشرعية في الخطبة فلا يتزوج اثنان قبل أن يجتمعا في حضور محرم، ليرى كل منهما الآخر ويتحادثا. وكما طالبت بسفور الفتاة أمام من يتقدّم لخطبتها وبعدم التشدّد في احتجاب الفتيات حتى يتمكن الشباب الراغبون في الزواج من رؤيتهن.

وعن تعدد الزوجات، قالت أنه مفسدة للرجل والصحة والمال والأخلاق والأولاد وقلوب النساء، وأنه عادة تتقلص كلما ارتفعت درجة التمدين والاستنارة. ودعت للسعي إلى تقليل تعدد الزوجات لغير داع، لما يترتب عليه من اختلاف الإخوة وانشقاق الأسر و»كل شيء مباح يترتب على عمله ضرر للفرد أو الأمة يلتحق بالمحظور، فللإمام شرعاً أن يمنع كل مباح يؤدي إلى ضرر»، وتقترح ألا يتزوج الرجل على امرأته أو يطلقها إلا بإذن من المحكمة الشرعية. فملك، على رغم انطلاقها من أرضية الدين والشريعة، لا تقف عند حدود حرفية النص وتتمسك بها تمسّك الجامد ضيق الأفق، بل تنظر كيف يطبق الناس النص وما آثار هذا التطبيق في حياة الفرد والأمة، فالأديان «لم تخلق لجلب البؤس وإنما خلقت لإسعاد البشر».

تؤمن ملك بتقسيم العمل بين الرجل والمرأة، فلكلٍّ طبيعة مختلفة، ومساواتهما في الحقوق والواجبات لا تعني أن يكون عملهما واحداً، فألصق الوظائف بطبيعة المرأة التي تتسم باللطف والحنان، تدبير المنزل وتربية الأولاد، ومن ثم وجوب اختصاص المرأة بالبيت، لكن من دون أن تسجن فيه أو تمنع من أن تتعلم وتتثقف، فتعلّمها ينعكس إيجاباً على أدائها وظيفتها كأم وربة منزل، بينما يزاول الرجل الأعمال الخارجية الشاقة أو التي تتطلب سفراً بعيداً. حتى أنها طالبت بأن يكون لمدارس البنات بعض الاختلاف في برامجها عن مدارس البنين لاختلاف طباع كل منهما ووظيفته في المستقبل، فتُربَّى الفتاة على أن تكون زوجة صالحة وربة بيت وأمّاً رؤوماً، لكنها لم تطالب بحصر الفتيات في علوم معينة، بل دعت الى إطلاق الحرية في تعلم أي من العلوم لمن تريد. ولا تعارض خروج المرأة للعمل في أي مهنة شريفة إن لضرورة أو من منطلق الحرية الشخصية، وإن كانت ترى أن هناك وظائف معينة أنسب لطبيعة المرأة كتعليم الأطفال والتمريض والطب، والخطابة والكتابة والعلم والأدب، «أما الملك فقد تولته نساء كثيرات ومنهن من أحسن سياسته كل الإحسان».

وقد أثار رأي ملك في قضية السفور والحجاب الجدل في زمانها وجعلها موضع انتقاد من أنصار السفور، ما جعلها تكتب في هذه القضية مرّات موضحة ومفصّلة من دون أن تتخلى عن رأيها المعارض للسفور، متخذة – كما تقول – مسلكاً وسطاً بين التفرنج والجمود. وإذا كانت تيارات سلفية معاصرة قد احتفت برأيها هذا واستشهدت به مقابل رأي قاسم أمين ومن نهج نهجه، من دون أن ترضى هذه التيارات عن ملك كل الرضى، فإن ملك لم تبنِ رأيها على أساس ديني بل تقول أنها لا تنتقد ترك البرقع من الوجهة الدينية «لأني أعلم أن الدين لم يحرجنا في هذه المسألة»، وإنما من الوجهة الاجتماعية بناء على ما خبرتْه من أحوال النساء والمجتمعات في الطبقات والأجناس المختلفة، و»التجارب يجب أن تقدَّم أوامرها على أوامر البحث والتخيّل»، فهي ترى أن واقع النساء في مجتمعها وما هنّ عليه من جهل مطبق وما عليه الرجال إلا القليل، من فساد مستحكم يجعلهم يتحرشون بالنساء ويتباهون بعلاقاتهم غير الشرعية، لا تجوز معه مطلقاً إباحة الاختلاط ولا أن نأمر نساء متعودات الحجاب بالسفور مرة واحدة، بل يأتي الأمر بالتدرّج لأن التغيير الفجائي ستكون نتيجته شراً على الوطن والدين. فالقضية عند ملك قضية أولويات، والأولوية ينبغي أن تكون لتعليم المرأة وتربيتها وتهذيب النشء وإصلاح أخلاق الرجال. وإن كانت تنبّه إلى ضرورة التحفظ تجاه الاختلاط في أي حال لأن «الطبيعة البهيمية في الإنسان تجتاز عقبات التربية وتخترق سياجها». تقول: «نحن نعلم أن هذا الحجاب لن يدوم، لكن ليس هذا أوان السفور لأننا غير مستعدات له»، وأن «الأهم الآن هو تربية الفتيات وتعليمهن حتى يصلحن يوماً لأن يكن قيّمات على أنفسهن فيخترن السفور أو الحجاب»، «وبالجملة أريد تعويد الناشئات السفور إلى الحد الذي يبيحه الدين الإسلامي الشريف بغير شطط في تأويل معناه». وكما تنتقد السفور الفوريّ تنتقد التشدد في الحجاب وما يفعله المتطرفون من حبس المرأة والتضييق عليها، وتسمي ذلك وأداً لا حجاباً. ومع دفاعها عن النقاب، لا تعتبره معياراً للأفضلية: «يتساوى عندي السفور والحجاب ما دامت العفة والحشمة لا غبار عليهما»، «وعندي أن المرأة السافرة الجادة في أخلاقها وسيرها خير من المؤتزرة بأثقل الحرير وأمنع النقاب وهي خليعة لعوب». ولم يقتصر نشاط ملك على الكتابة والخطابة، فقد أسّست جمعية «الاتحاد النسائي التهذيبي» لترقية المرأة، وجعلت من بيتها مقراً لتعليم النساء التمريض، وكانت تخطط لإنشاء مشغل وملجأ للنساء، لكنّ العمر لم يسعفها للتنفيذ إذ رحلت وهي في ريعان الشباب.

مقالات ذات صلة

إغلاق