مقالات
* وهْمُ القوّة، وغرقُ الجبروت. * رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – * السلسلة مكونة من إثنتى عشرَة مقالة. عنوان السلسلة: “كل يوم مقالة” * عنوان المقالة: “ضعفُ موسى المادّي، وقوة توكله على الله “(9 – 14)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* التاريخ لا يُنجي الأقوياء، بل النجاة للعاملين المتوكلين.
في لحظات التحوّل الكبرى، تتكشّف الحقيقة التي يتجاهلها الطغاة ويغفل عنها كثيرٌ من الناس: أن النجاة لا تكون لمن يملك القوة، بل لمن يملك التوكل على الله. هذه ليست مجرد عبرة أخلاقية، بل قانون رباني سارٍ في التاريخ، تُثبتُه الوقائع وتُجذّره النصوص.
* موسى وفرعون… حين يتكلم الماء
من أكثر المشاهد دراميةً ووضوحًا في القرآن، مشهد البحر حين انشقّ لموسى -عليه السلام-، فمشى على أرضٍ يابسة، والبحر من جانبيه كأنّه جداران، حتى اجتازهُ وقومه.
وفي اللحظة نفسها، تقدم فرعون بجيشه العظيم، مدججًا بالسلاح وجبروت الطغاة، يظن أن البحر سُخِّر له كما سُخِّرت له رقاب الناس، فإذا بالماء يغدره، وإذا بالجبروت يغرق في لحظة.
أين كانت القوة؟
وأين كان الضعف؟
موسى كان مطاردًا، أعزلًا من كل سلاح، لا يملك جيشًا ولا دِرعًا، لكنه كان يملك التوكل واليقين بربه، قال: ﴿كَلَّآ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ (الشعراء: 62).
– وإذا أردنا أن نبدأ من أول القصة، فلتكن من مهد موسى -عليه السلام-، حين كان رضيعًا لا حول له ولا قوة، وأمِرت أمه -بوحي من الله- أن تُلقيه في اليمّ،
قال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنْ أَرْضِعِيهِۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱلْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِيٓۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ﴾ (القصص: 7)، أيُّ عقل بشري يقبل أن يُلقي طفلًا رضيعًا في بحرٍ متلاطم؟
لكن البحر لم يكن غادرًا، بل صار مرْكبًا، ووسيلة نجاة!
لقد حمله الماء إلى قصر عدوه، ولم يُغرِقه، بل جعله الله في كنف رحمته، تُرضعه أمه، ويأويه بيت فرعون، الذي سيَغرَقُ بعد سنواتٍ في ذات الماء!
– يا للمفارقة العجيبة:
الضعف البشري المطلق، محفوظ برعاية الله، والقوة البشرية المطلقة، غارقة حين تتجرد من الإيمان.
* قانون السماء: ليس القوي هو الذي ينجو
في ميزان البشر، يُظن أن الأقوى هو الذي ينتصر، وأنِ من امتلك العُدة والعدد مَلَكَ المصير والنتيجة.
لكن التاريخ يروي غير ذلك.
• نوحٌ عليه السلام، صنع السفينة وقومه يَسخرون منه، فنجا.
• إبراهيم عليه السلام، أُلقي في النار، فكانت بردًا وسلامًا.
• محمد ﷺ، طُرد من مكة، ففتحها بعد سنوات، وكان يقول في هجرته: “لا تحزن إن الله معنا.”
هؤلاء لم ينتصروا لأنهم أقوياء، بل لأنهم متوكلون صادقون عاملون لله، جعلوا الله ملجأهم الوحيد.
* الواقع يكرر نفسه
في كل زمان يظهر “فرعون” جديد، يغتر بقوته وسلطانه وأجهزته ووسائل بطشه.
ويظهر في المقابل “موسى” جديد، قد يكون أعزل من السلاح، لكنه قوي بالله.
نحن لا نعيش في فراغٍ من السُّنن، بل نحن جزء من مشهد أعظم، تحكمه قواعد ربانية لا تتبدل ولا تتغيّر، ومن أعظمها: أن العبرة ليست بما تملك، بل بمن تتوكل عليه.
* النجاة للمتوكلين… لا للمتكئين على جبروتهم
التوكل ليس ضعفًا، بل هو تحرر من أوهام القوة، وإيمان بأن الله هو المدبر والمُصرّف والناصر.د، وقد قال النبي ﷺ: “لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا.” (رواه الترمذي وقال: حسن صحيح)، إذا كان هذا في الرزق، فكيف بالأمان، والنّصرة، والنجاة من الغرق؟!
* خاتمة: ضع خطاك حيث خطا موسى
في عالمٍ يغري بالاعتماد على القوة، والسطوة، والتقنيات والمال… تذكّر أن البحر لا ينشق إلا للمتوكلين، وأنّ الغرق قد يكون نصيب من ظنّ نفسه ربًّا من دون الله.
فلا تطلب النجاة في كثرة الجنود، وقوة العتاد بل في صدق التوكل إلى جانب الإعداد.
ولا تُعجبك كثرة العدد والعُدة، بل إعجَب بإيمان من قال: ﴿إنّ معِيَ ربي سيَهْدين﴾… ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
* مقالة رقم: (2001)
* 28. ذو الحجة. 1446 هـ
* ألثلاثاء . 24.06.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)
أعط من وقتك فقط دقيقتين
* هجرةُ التحوّل
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
* السلسلة مكونة من إثنتى عشرَة مقالة.
عنوان السلسلة: “كل يوم مقالة”
* عنوان المقالة: “الهجرة النبوية: الحدث الذي غيّر وجه التاريخ” (11)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* ليست الهجرة النبوية مجرد رحلة انتقال من مكة إلى المدينة، بل هي إعلانٌ عن بداية مشروع حضاري، غيّر ملامح التاريخ الإنساني، وأعاد تعريف القوة، والانتماء، والدولة، والرسالة.
* من المستضعَف إلى الصانع
في مكة، عاش المسلمون تحت وقع الاضطهاد، لا يملكون من أدوات الواقع شيئًا، بينما كانت قريش تمتلك النفوذ والتجارة والهيمنة، ولكن الهجرة لم تكن هروبًا من الضعف، بل تحوّلًا من مرحلة الاستضعاف إلى صناعة الكيان، من مرحلة التبشير إلى مرحلة التغيير، ومن “فردية الرسالة” إلى “جماعية الأمة”.
الهجرة أعادت تعريف العلاقة بين الإنسان والمؤسسات، فقد أصبح الإسلام بعد الهجرة مشروع دولة، لا فكرة مجردة أو عبادة محصورة في الزوايا، وهذا ما أربك قريشًا أكثر من دعوة التوحيد نفسها: أن يتحول محمد ﷺ من صاحب دعوة إلى صاحب كيان.
* التوقيت الإلهي.. لا العجلة البشرية
كثير من الصحابة تمنوا أن يُؤذن لهم بالجهر، بالتصعيد، بالمواجهة، لكن الوحي كان ينزل بالتثبيت والانتظار، فلما أذِن الله بالهجرة، كان ذلك بعد اكتمال الشروط.
وهنا درسٌ كبير: أن صناعة التحول التاريخي لا تأتي برغبة المظلوم فقط، بل حين تنضج الأرضية، ويتناغم العمل البشري مع التوقيت الإلهي.
ولذلك، لم تبدأ الهجرة بكلمة “امشِ”، بل بدأت بتخطيط دقيق: من اختيار الطريق، إلى إعداد الزاد، إلى استئجار دليل، إلى التخفي في الغار، وكأن الإسلام أراد أن يلقن البشرية درسًا: الإيمان لا يعارض التدبير، بل يصحّحه ويوجهه.
* ولادة المجتمع من رحم الإيمان
لم يكن المجتمع المدني الجديد مجرد تجمّع بشري، بل تأسس على عقدٍ روحيٍ قبل أن يكون عقدًا مدنيًا. فالأنصار لم يفتحوا بيوتهم فقط، بل فتحوا قلوبهم، وشاركوا المهاجرين في كل شيء، يقول الله عنهم:
﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ (الحشر: 9).
لقد ولدت الأمة في لحظةٍ كانت فيها الهجرة تضحيةً واختيارًا حرًّا، لا طلبًا للنجاة الشخصية، بل نهوضًا بالرسالة، ولذلك أصبحت المدينة ليست مجرد محطة، بل مُنطلقًا لتأسيس دولة، ثم حضارة.
* الهجرة في ميزان الحضارة
غيّرت الهجرة النبوية طريقة تفكير المسلمين، فلم يعودوا جزءًا من ردّ الفعل، بل أصبحوا فاعلين في صياغة الواقع.
قبل الهجرة، كان المسلمون يُعرّفون بوصفهم “أتباع محمد”، بعد الهجرة أصبحوا “أمةً لها شأن”.
قبل الهجرة، كانت أحكام الإسلام مجتزأة، بعد الهجرة أصبح الإسلام منهج حياة، ينظم السوق، والجيش، والأسرة، والسياسة، والسلوك
ولذلك، اعتمد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الهجرة مبدأً للتأريخ الإسلامي، لأنها كانت لحظة انتقال من الهامش إلى المركز، ومن الفكرة إلى الدولة، ومن الرسالة إلى التطبيق.
* الهجرة اليوم.. وغياب المعنى
في زماننا هذا، تحوّلت الهجرة إلى احتفالية تكرارية، تُروى كقصة مؤثرة، لكنها تُفرغ من مدلولها الرسالي.
هل نعي أن الهجرة كانت مشروع تحوّل؟ وأن المدينة كانت “منصة انطلاق” لا “مهربًا آمنًا”؟
وهل نحن مستعدون لتجديد المعنى بدل الاكتفاء بتمجيد الحدث؟
ما لم تتحوّل الهجرة في وعينا إلى مفهوم حضاري، نستلهمه في بناء مجتمعاتنا ومؤسساتنا وتحالفاتنا، فإننا سنظل نعيش على ظلال الماضي لا على نوره… انتظروا مقالة أخرى حول هذا الحدث المفصلي في حياة الأمة.
* ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
* اللهم ارحم ضعفنا واجبر كسرنا وكن لنا ولا تكن علينا واجمع شملنا وكن لأمتنا واحفظ شعبنا بحفظك يا اكرم الأكرمين
* مقالة رقم: (2003)
* 01 . محرّم .1447 هـ
* ألخميس . 26.06.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)
أعط من وقتك دقيقتين واقرأ:
* هجرةُ التأسيس
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
* السلسلة مكونة من إثنتى عشرَة مقالة.
عنوان السلسلة: “كل يوم مقالة”
* عنوان المقالة:”من مكة إلى المدينة: من الفكرة إلى الدولة” (12)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
ليست كل فكرة قادرة على أن تصنع دولة، لكن الفكرة التي انطلقت من مكة، ونضجت في قلب رجلٍ صدّق بالوحي، وصبر على الحصار والاضطهاد، كانت تحمل من العمق والرؤية والبناء ما يؤهلها لتنتقل من “القول” إلى “الكيان”.
إنّ الهجرة النبوية لم تكن مجرد انتقال مكاني، بل كانت الانتقال التاريخي من مرحلة البثّ الفردي للرسالة، إلى مرحلة صناعة النظام، ومأسسة القِيَم، وبناء المجتمع الرسالي الذي تُترجم فيه العقيدة إلى قانون، والإيمان إلى فعل.
* من الفرد إلى الجماعة
في مكة، كانت الدعوة فردية، الصراع فرديًا، والانتماء قائمًا على العقيدة في قلب غريب بين قومه، أما في المدينة، فقد بدأت مرحلة الجماعة المؤمنة، فظهرت معاني “الصف”، و”الجماعة”، و”المسؤولية المتبادلة”، لتتشكل النواة الأولى للدولة.
لقد تحول الإسلام من فكرٍ معزول عن أدوات الواقع، إلى كيان يتعامل مع الجار والعدو والحليف، والمنافق، ويبني السوق، ويؤسس المسجد، ويعقد المعاهدات، ويُدير حالة التعدد المجتمعي، ويضبط السلوك العام باسم القانون الرباني.
* المدينة.. البداية الحقيقية
لم تكن المدينة “منفى آمنًا”، بل كانت ساحة اختبارٍ حقيقية، فهناك اختُبر الإخاء الاجتماعي، حين قُسم المال والبيوت دون ضغط قانوني، بل بإيثار داخلي، وهناك بُنيت منظومة الأخلاق في سلوك الأنصار، الذين فهموا الدين كمسؤولية لا كحالة شخصية.
في المدينة، بدأت أول ملامح الدولة: وثيقة المدينة، التي أسّست أول عقد اجتماعي عادل بين المسلمين واليهود والمشركين، ووضعت الحدود الفاصلة بين الانتماء العقدي والانتماء المدني، لم يكن ذلك ترفًا تنظيميًا، بل استجابة لضرورة بناء مجتمع لا ينهار من الداخل عند أول أزمة.
* الدولة ليست غاية.. بل حاضنة
الدولة في الوعي النبوي ليست أداة سُلطة، بل حاضنة للرسالة، وسياج للقِيَم، ومنصة للعدل، ولذلك لم يكن تأسيس الدولة هدفًا بذاته، بل ضرورة لحماية الإنسان وإقامة الدين وتحقيق الرحمة.
ولهذا، لم يبدأ النبي ﷺ ببناء جيش، ولا بإقامة الحواجز، بل بدأ بـ المسجد: مركز العبادة، ومقر القيادة، ومكان القضاء، ومحطة التوجيه، فالفكرة التي جاءت من مكة لم تتخلّ عن ُبعدِها الروحي في المدينة، بل زادت وضوحًا وتجذّرًا.
* من الفكرة إلى التمكين.. لا تناقض
كثيرون يفصلون بين “النقاء الفكري” و”الواقع العملي”، ويظنون أن القِيَم شيء، والحكم شيء آخر، لكن الهجرة كانت الجواب الحاسم: بالإيمان نبني، وبالقِيَم نحكم، وبالوحي نؤسّس.
فحين دخل النبي ﷺ المدينة، لم يضع دستورًا علمانيًا، ولم يقل: “هذا واقع ويجب التكيّف معه”، بل صنع واقعًا جديدًا يقوم على الوحي، لكنه لا يُلغي العقل ولا يُغفِل الواقع، وهنا المعجزة: كيف تحوّلت الفكرة إلى دولة دون أن تفقِد طهارتها؟
* الدرس المعاصر
في عالم اليوم، تعيش الأمة بين طموحات فكرية معزولة، وتجارب سلطوية مفرغة من القيمة، والمطلوب: استحضار روح الهجرة، حيث تنتقل الرسالة من التنظير إلى البناء، ومن الشعار إلى الفعل، ومن الوعظ إلى النظام.
لم تكن الهجرة نزوحًا، بل بداية دولة، ولم تكن المدينة ملجأ أو محطةً بل منصة انطلاق، والفكرة حين تُصان بإخلاصها، وتُنفّذ بحكمتها، فإنها قادرة على أن تصنع التاريخ، كما فعلت يوم عبرت الصحراء من مكة إلى المدينة، ثم إلى العالم بأسرِه.
* خاتِمة:
لم تكن الهجرة النبوية مجرد انتقال من مكان إلى آخر، بل كانت منعطفًا حاسمًا في مسار الرسالة، تحوّلت فيه الدعوة من فكرة مُحاصَرة إلى مشروع دولة، ومن البلاغ الفردي إلى البناء الجماعي.
لقد أثبتت الهجرة أن الإيمان لا يكتمل دون وعيٍ بالواقع ولا يتمكّن في الأرض دون صبرٍ وتخطيط.
ومن دروسها أن التحول الكبير يبدأ بخطوة صادقة، حين يتحرك القلب بالإخلاص، والعقل بالبصيرة، والقدم بالعمل، فما بين مكة والمدينة… وُلد تاريخ، وبُنيت حضارة… ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
* اللهم ارحم ضعفنا واجبر كسرنا وكن لنا ولا تكن علينا واجمع شملنا وكن لأمتنا واحفظ شعبنا بحفظك يا اكرم الأكرمين
* مقالة رقم: (2004)
* 02 . محرّم .1447 هـ
* الجمعة . 27.06.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)
أعط من وقتك دقيقتين واقرأ:
* ثباتٌ خالدٌ. حالاتٌ تُدَرَّس
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
* عنوان السلسلة: “كل يوم مقالة”
* عنوان المقالة: “الثبات لا يموت… والحق لا يُوارى التراب” (13)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
في زمنٍ تُعلَّب فيه المبادئ في علب السياسة، وتُباع الأصوات تحت عنوان “الواقعية”، وتُخفى القيم باسم “المصلحة”، تبقى دروس الثابتين عبر التاريخ تصرخ في وجوهنا:
– الدين لم يُنقل إلينا بصمت المتحايلين، بل بدموع الثابتين، وبصوت الذين قالوا: “ربنا الله” ثم استقاموا، ولم يلتفتوا إلى الوراء، قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُوا۟ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُوا۟ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَـٰٓئِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا۟ وَلَا تَحْزَنُوا۟ وَأَبْشِرُوا۟ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ (فصلت: 30)
* أصحاب الأخدود… هل كان الصمت أسلم لهم؟
قصة أصحاب الأخدود التي قصها النبي ﷺ تُقدّم أنموذجًا خالدًا للثبات.
كان يمكن لهم أن يصمتوا، أن يُخفوا إيمانهم، أو أن “يداهنوا” الطاغية من باب درء المفاسد، لكنهم اختاروا أن تُحرق أجسادهم على أن يُطفئوا نور قلوبهم.
قال تعالى: ﴿قُتِلَ أَصْحَـٰبُ ٱلْأُخْدُودِ ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾ (البروج: 4–7)، وروى مسلم عن صهيب -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ حدّثهم عن الغلام الذي تحدى الطاغية، وقال للناس: “آمَنتُ بربِّ هذا الغلام!”، فشُقّ له الأخدود، وأضرموا فيه نارًا عظيمة وألقِيَ فيها اهل الإيمان، لكن الكلمة بقيت… والأخدود لم يُغلق على الحقيقة… -ربما نعود للقصة لاحقًا إن شاء الله-
* إبراهيم عليه السلام… رجل بِوزنِ أمة
إبراهيم -عليه السلام- لم يكن يملك إلا قلبًا عامرًا بالتوحيد، لكنه واجه النمرود، وحطّم أصنام قومه، وصدع بالحق بلا مسايرة أو مهادنة، فالعقيدة لا يُساوم عليها، قال تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلَّا رَبَّ ٱلْعَـٰلَمِينَ﴾(الشعراء: 77)، ولما أرادوا إلقاءه في النار، لم يُساوم، بل توكّل على الله، فجاءه الخلاص من السماء: ﴿قُلْنَا يَـٰنَارُ كُونِى بَرْدًۭا وَسَلَـٰمًا عَلَىٰٓ إِبْرَٰهِيمَ﴾ (الأنبياء: 69)، فمن الذي انتصر؟ من أشعل النار أم من أُلقِيَ فِيها؟
* عبد الله بن حذافة… ودموع الكبرياء
حين وقع الصحابي الجليل عبد الله بن حذافة
-رضي الله عنه- في أسر الروم، دعاه قيصر إلى ترك دينه، ثم عرض عليه المال والنساء والمنصب، ثم سلخ أمامه أحد الأسرى حين ألقاه في الزيت المغلي، فلما بكى، ظنه القيصر قد ضعُف، لكنه أجابه: “ما بكيتُ جزعًا، ولكنِّي تمنّيت أن لي عدد شعري من النفوس تُقتل في سبيل الله.”
هذا الثبات هو الذي هزم قيصر، لا السيوف ولا الدبلوماسية، بل إيمانٌ لا يُباع ولا يُشترى ولا يدخل في رهان المساومة.
* ابن تيمية… سجين يعلّم الأحرار
سُجن شيخ الإسلام ابن تيمية لأنه لم يُساير الحاكم، ومات في سجن القلعة، لكنه كتب من خلف القضبان وما زلنا نقرأه ونستنير به، وهو يقول: “ماذا يفعل أعدائي بي؟ جنتي وبستاني في صدري، أينما ذهبت فهي معي، سجني خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة.”الزنازين لم تُسكت صوته، بل دوّته للأجيال القادمة.
* الإمام أحمد… في امتحان الأمة
في فتنة القول بخلق القرآن، تعرض الإمام أحمد للجلد والسجن، ولو أنه قال ما أراده الحاكم، لصمتت الأمة كلها. لكنه ثبت وقال: “بيننا وبينكم يوم الجنائز.” وكانت جنازته من أعظم ما شهدته بغداد في تاريخها.
لقد فهم أن سكوته سيُسكِت مذهبًا، وثباته سيُحيي حقًّا.
* فهل خسر هؤلاء؟
لقد ماتوا ثابتين… لكن الحق الذي ثبتوا عليه هو الذي عاش.
أما الذين راوغوا وسكتوا وأضاعوا البوصلة، فلا نعرف أسماءهم، ولا يُروي عنهم سوى الندم.
* وفي الأخير:
الثبات ليس تشدّدًا، بل بصيرة، والتراجع عن الحق ليس حُسْنُ تدبير، بل خيانة للتكليف الإلهي.
قال تعالى: ﴿وَٱصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِٱللَّهِ ۚ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ (النحل: 127).
فإما أن تموت على الحق وأنت مرفوع الرأس، وإما أن تعيش في الظل… وتعتذر لأحفادك لماذا لم تصرخ حين وجب أن تصرخ.
الذين أوصلوا إلينا النور، لم يكونوا الحياديين، ولا المسايرين، بل كانوا الثابتين، الذين اختاروا الجمر بدل التلون، واختاروا الله بدل السلامة.
فاختر لنفسك مقعدك في سفينة النجاة:
الصامتون يُنسون، والثابتون يُكتبون في سجل الخالدين… أليس كذلك يا سادة يا كرام؟… ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
* اللهم ارحم ضعفنا واجبر كسرنا وكن لنا ولا تكن علينا واجمع شملنا وكن لأمتنا واحفظ شعبنا بحفظك يا اكرم الأكرمين
* مقالة رقم: (2005)
* 03 . محرّم .1447 هـ
* السبت . 28.06.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)
لحظات من وقتك، إجعلها لنفسك، خاطب بها روحك
* وهْمُ الكثرة
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
* عنوان السلسلة: “كل يوم مقالة”
* عنوان المقالة: “بين صوت الأغلبية وصوت الحق: حين يُصبح الانحراف جماعيًّا” (14)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* هل الكثرةُ دليل على الحق؟
في عالمٍ تغلب عليه الأرقام، وتُقاس فيه الأمور بعدد المتابعين وحجم التفاعل ودرجة الانتشار، بات كثير من الناس يظنون أن الكثرة مرادفة للصواب، وأن ما عليه الأغلبية لا بد أن يكون هو الحق، بل أصبح بعضهم يُسكت ضميره ويعطل عقله لمجرد أن الأغلبية يفعلون ذلك، لكن السؤال الذي يجب أن يَسبق كل رأي، ويَعلو فوق كل سلوك هو: هل الكثرة دليل على الحق؟ وهل المطلوب أن أكون حيث تهتف الجموع، أم حيث يرضى الله؟
– هذا السؤال ليس حديثًا ولا طارئًا، بل هو من أقدم التحديات التي واجهت الأنبياء والمصلحين في طريق دعوتهم، كان يمكن لكل نبي أن يُرضي قومه لو أراد، وأن يتنازل عن جزء من الحق ليكسب وُدّ الناس، لكنهم جميعًا اختاروا الوقوف مع الله، ولو كانوا قِلّة.
الكثرة قد تُضل
جاء التحذير الإلهي قاطعًا: ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ (الأنعام: 116)
فالكثرة ليست برهانًا على الهداية، بل قد تكون دليلاً على شيوع الجهل، أو غلبة الشهوة، أو ضغط التقليد الأعمى. وفي آية أخرى: ﴿وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين﴾ (يوسف: 103)، فلا يُستغرب أن تختار الأغلبية الباطل، أو تُعرض عن نور الإيمان، فهذا جزء من طبيعة الابتلاء في الدنيا، حيث يُمتحن الإنسان في بصيرته، لا في تقليده.
* تأمل في سِيَر العظماء
• نوح عليه السلام دعا قومه قرونًا، فلم يؤمن معه إلا قليل، ومع ذلك نجا القليل وهلكت الأغلبية.
• إبراهيم عليه السلام وقف وحده في وجه أمة تعبد الأصنام، فخلّده الله بقوله: ﴿إن إبراهيم كان أمة﴾.
• النبي محمد ﷺ وقف في مكة وحده في وجه قريش كلها، فآذوه وسخِروا منه، لكنه ثبت على الحق حتى نصره الله.
فالحق لا يُقاس بعدد أصوات المؤيدين، بل بمدى موافقته للوحي، قد تسير وحدك في طريقٍ مستقيم، بينما تسير الجموع في طرقٍ متعرجة تقود إلى الهاوية.
* لا تكن إمّعة
قال رسول الله ﷺ: “لا تكونوا إمّعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسكم…” (رواه الترمذي)، هذا الحديث يصف حال كثير من الناس اليوم: يجرون خلف الموجة، ويتبعون الاتجاه السائد دون تمحيص، لكن المؤمن لا تذوبه الجموع، بل يبني مواقفه على نور البصيرة وهدى الوحي، حتى لو سار عكس التيار.
* متى تكون الكثرة حجّة؟
ليست كل كثرة مذمومة، قد تكون الكثرة مباركة إذا اجتمعت على الحق، كإجماع العلماء الربانيين، أو اتفاق أهل الإيمان على معروف، لكن الكثرة تُرفض إذا كانت غلافًا للتفاهة، أو ستارًا للباطل، أو ضغطًا اجتماعيًا يُراد منه إخماد صوت الحق، قال ابن مسعود رضي الله عنه:
“الجماعة ما وافق الحق، وإن كنت وحدك” فليس كل من ارتفع صوته بين الناس صاحب حجة، وليس كل من كثُر تابِعوه يسير في طريق مرضاة الله.
* من الواقع المعاصر
كم من فكرة شاذة أصبحت “رأيًا عامًا” فقط لأنها تكررت على الألسنة وتبنتها وسائل الإعلام؟ وكم من منكر صار عرفًا لأنه سكت عنه الصالحون؟ وكم من عاقل صامت لأنه خاف أن يوصم بالرجعية أو التخلّف لمجرد أنه يخالف ما عليه الأكثرون؟
– بل إن كثيرًا من مظاهر الانحراف الكبرى في المجتمعات لم تبدأ من فرد، بل من “رغبة جماعية” في التجاوز، أُلبست ثوب الحرية، ثم صُفّق لها حتى أصبحت ثقافة سائدة.
* خُلاصة
• الحق لا يُوزن بعدد الأتباع، بل بمقدار موافقته للوحي.
• أن تقف مع الحق وحدك خيرٌ من أن تُصفّق للباطل وسط جمهورٍ كبير.
• الكثرة إذا كانت ضاغطة نحو الانحراف، فالثبات يكون بطولة.
• المؤمن يسائل نفسه دومًا: هل هذا يُرضي الله؟ لا: هل هذا يُعجب الناس؟
فاجعل شعارك: “كن مع الله ولو كنت وحدك، فالعاقبة للمتقين، لا للمنتشرين”.. ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
* ألطف يا ربنا بعبادك المؤمنين المستضعفين في الأرض.
* مقالة رقم: (2006)
* 04 . محرّم .1447 هـ
* الأحد . 29.06.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)